0
السلام عليكم متتبعنا، أتينا لكم اليوم بموضوع مهم نشر في مجلة رباط الكتب، حول بعض مفاهيم العلوم الانسانية من منظور التاريخ، قراءة ممتعة
ملحوظة : قدمت هذه الشهادة في اليوم الدراسي الذي احتضنته كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء- عين الشق، بشراكة مع الجمعية المغربية للبحث التاريخي ومؤسسة محمد بنسعيد آيت إيدر للدراسات والأبحاث، في 25 ماي 2015، حول موضوع : ” علاقة التاريخ بالعلوم الإنسانية والاجتماعية”.
قبل الدخول في صلب الموضوع، دعوني أسجل جملة من الملاحظات التي قد تبدو جانبية ولكنها في الواقع على درجة كبيرة من الأهمية:
  1. عندما اتصل بي الصديق الأستاذ ياسر الهلالي، فهمت منه أن المقصود من هذا اللقاء هو تقديم تجربة شخصية في مضمار ما يمكن تسميته بتفاعل الباحث في ميدان التاريخ مع حقول مجاورة من العلوم الإنسانية والاجتماعية من قبيل الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا وعلم الاقتصاد والعلوم السياسية وبطبيعة الحال، الزوجة التي كانت مفروضة ألا وهي الجغرافيا، وهذا من بين علوم أخرىكالتحليل النفسي واللسانيات وغيرها مما يتضح للباحث أثناء مسيرة بحثه ضرورة تعلم مبادئها وبذل المجهود في تطويعها لاحتياجاته الخاصة.
  2. والظاهر أن هذا ما يشغلنا في هذا اليوم الدراسي وفي إطاره سوف أدلي ببعض الانطباعات العامة حول تجربتي الخاصة. لكني أنبه منذ البداية إلى أنني لا أدعيلهذه التجربة أي مستوى من النموذجية. فهي تجربة أفادتني خلال قيامي بالأبحاث التي ساهمت بها في هذا الحقل وللمهتمين وحدهم أن يجدوا فيها ما يثير انتباههم أو يتركوها جانبا. يبقى أنني استمتعت بالتفاعل معها، اطلاعا وتجريبا وتحريرا. ومما يثير الرضا لدى الباحثة أو الباحث ولا شك أن تساعده المعرفة ببعض مجريات الحقول المجاورة في فهم المتن المتوفر لديه من وثائق ومستنداتوتمكنه من إعطائه حدا بعيدا من المعنى المقنع.
  3. ليس التفاعل مع نتائج البحوث في الحقول المجاورة من باب الشغف الموضوي (نسبة إلى الموضة) أو الادعاء السطحي والتباهي المناسباتي. فقد يكون الوصف المبني على البحث الدقيق والتحري المتأني أفيد وأغنى بالنسبة لميدان بحث في طور النشوء والتبلور مما يكون عليه التشدق بالاطلاع المنهجي غير المتحكم فيه أو الادعاء بالالتزام بالهاجس المنهجي دون الوقوف بكامل الدقة عند التفاصيل، والشيطان كما يقال بالفرنسية يكمن في التفاصيل (Le diable est dans les détails، وهي عبارة تنسب فيما يبدو إلى الفيلسوف الألماني نيتشه)، بمعنى أن من يُهمل الدقة في التفاصيل قد يعرض نفسه إلى تغرير الشيطان فيبتعد عن الواقع ويعتقد راسخا أن أضغاث أحلامه قد صارت واقعا. هنالك من يظن أنه يبلغ درجة العلمية عندما يطرح القضايا المنهجية كمدخل لأي مناقشة دون أن يكون الطرح دائما إجرائيا، فعلينا التمييز بين الهاجس المنهجي المبني على أرضية وصفية حدَثية صلبة، (يسميها كليفورد گيرتز الوصف المكثفthick description أو description dense) والهوس المنهجي المبني على ضبابية وصفية وتقريرات تعميمية تؤول في النهاية إلى الادعاء أكثر من أي شيء آخر.
  4. لابد من التدقيق في كلمتين محوريتين في ما سأتقدم به، ولو بشكل سريع، وأعني لفظة المفهوم التي تتداخل مع لفظة المصطلح. غالبا ما تستعمل اللفظتان كمترادفتين، والواقع أن بينهما فرقا: المفهوم هو المعنى العام المجرد الشامل لما يدل عليه المصطلح، والمصطلح هي المفردة أو العبارة التي يصطلِح عليها أولو علم من العلوم لأداء هذا المعنى العام. وهذا هو الفرق الذي نلمسه بين لفظتي (concept) و (terme) بالفرنسية. لا شك أن هنالك تداخلا وتراكبا بين اللفظتيين ولكننا سوف نحيل على هذا التمييز بعد حين. ومهما يكن من أمر، فإن للمفاهيموالمصطلحاتأهمية خاصة في فهم وتفسير واقع معين، إذ يكون لها دور بارز في الرفع من درجة المفهومية (intelligibilité)بالنسبة لأي موضوع مدروس.
والسؤال المتبادر إلى الذهن هو هل يستعمل البحث التاريخي المفاهيم والمصطلحات؟ لعل هذا يرتبط بنوعية البحث التاريخي المقصود. قد نُجحف الكتابة التاريخية التقليدية حقها لو قلنا إنها تَعْدُم استعمال المصطلحات. فلها ما لها من المفردات الدالة على معانٍ عامة مثل الخبر والتاريخ والعهد والقبيلة والدولة إلخ.. إلا أن مصطلح الدولة مثلا يُستعمل في الغالب بنوع من الفضفاضية بحيث قد يعني عهدَ سلطان ما أو مدة أسرة معينة، دون أن يحيل بالضرورة على مفهوم الدولة بالمعنى المعاصر (Etat). وربما كان مصطلح المخزن هو الأقرب إلى هذا المفهوم في السياق المغربي.وفيما يتعلق بالكتابة التاريخية الغربية الحديثة، نجد أن التاريخ الوضعانيالذي يركز على التاريخ الحدثي السياسي  أوالدبلوماسي أو العسكري لم يكن في حاجة إلى الكثير من المفاهيم والمصطلحات طالما قام بالوصف الدقيق لتعاقب الأحداث مع استكناه الأسباب واستخراج النتائج. على أن الطفرة التي عاشها البحث التاريخي مع الانفتاح على ميادين البحوث الاقتصادية والاجتماعية ثم اللسانية والأنثروبلوجية مع مدرسة الآنال (Les Annales) وغيرها قد دفعت بما عُرف بالمغرب بالتاريخ الاجتماعيإلى ضرورة استلهام مفاهيمها ونحت مفاهيم خاصة به لتجاوز مستوى الوصف المبسط إلى مستوى التحليل المعمق والاستنتاج العام.
ما أقدمه هنا إذن هو عبارة عن عودة إلى قراءة بعض الأبحاثالتي ساهمت بها في حقل الدراسات التاريخية منذ عدة عقود..  وسأمَحور ملاحظاتي حول خمسة مفاهيم رئيسة هي المبادلة  وإعادة التوزيع ثم الانقسامية والحرْكة وأخيرا مركز الاقتداء، وهي مفاهيم التقيت بها وتفاعلت معها خلال هذه الأبحاث. سوف أقدم بإيجاز السياق العلمي الذي نشأت فيهبعض هذه المفاهيم قبل الحديث عن الكيفية التي استعرتها بها ووظفتها. وسوف يمكنني هذا من التدرج من التاريخ المحلي إلى التاريخ الوطني أو من تاريخ المجموعات القبلية إلى تاريخ الدولة.
أولا- مفهوم المبادلة (réciprocité)
استقيت هذا المفهوم وكذا المفهوم الموالي الذي هو إعادة التوزيع من كارل بولانيي(Karl Polanyi). من هو كارل بولانيي؟ هو من كبار مؤرخي الاقتصاد العالمي ومن المفكرين البارزين في التطور البشري، وللأسف فهو لا يزال غير معروف لدينا بالحد المنشود، يعود ذلك ولا شك إلى تأخر ترجمة أعماله المؤسِّسة إلى اللغة الفرنسية التي غالبا ما نستقي منها مستجدات البحث بصفة عامة. بولانيي من أصل مجري عاش في النمسا ثم في ألمانيا قبل أن يهاجر إلى انجلترا عند انتصار هتلر بألمانيا وبعدها إلى أمريكا حيث قام بأهم أبحاثة وأصدر كتابه الشهير: The Great Transformationأو التحول الكبير، أصدره سنة 1946 ولم يترجم إلى الفرنسية إلا بعد ما يقرب من أربعين سنة ثم لم ينقل إلى العربية إلا مؤخرا بعد أزيد من ستين سنة.  وقد أهله هذا المؤلف لأن يلتحق بهيئة التدريس بجامعة كولومبيا المعروفة بمدينة نيويورك. ومن الملفات الأولى التي أثارت الانتباه إلى هذا المفكر ما نشرته مجلة الآنال سنة 1974 تحت إشراف لوسيت فالانسي:
L. Valensi, (Sous la direction…) « Pour une histoire anthropologique : la notion de réciprocité », in Annales E. S. C., 29e année, n° 6 Nov-Déc. 1974.
وقد ازداد الاهتمام مؤخرا بهذا المفكر في الغرب عامة وفي فرنسا خاصة بالعلاقة مع أزمة الاقتصاد النيو-ليبرالي العالمية الأخيرة. ومن بين مجموعة من التآليف والمقالات المخصصة له يمكن الإشارة إلى عدد من مجلة موس تحت عنوان
Avec Karl Polanyi, contre la société du tout marchand Revue du Mauss (Mouvement anti-utilitariste dans les sciences sociales) n°29 2007.
الفكرة العامة الأساسية في مؤلف التحول الكبير، بكثير من التبسيط والاختزال، هي أن المستوى الاقتصادي في حياة المجتمعات البشرية ما قبل الرأسمالة كان دائما منغرسا في المستويات الاجتماعية الأخرى من قبيل العلاقات القرابية والأنشطة الدينية وغيرها. (enchâssé : embedded أوencastré)ولم ينفصل النشاط الاقتصادي عن الأنشطة الأخرى ويستقل بذاته إلا في مجتمع السوق المعمّمة أي في المرحلة الرأسمالية.  ونظرا لعنايته بالمجتمعات ما قبل الرأسمالية فإن قراءته كانت تعِد بالكثير من الافادة بالنسبة لفهم بعض الظواهر في تاريخ المغرب باعتباره من الدوائر الخارجة عن تطور التاريخ الأوروبي.
عربت réciprocitéبالمبادلةوليس التبادلالتبادل يحصل في مجتمع السوق حيث يتم تبادل سلعة بثمن نقدي وهذا يقابل كلمة échange. أما مصطلح المبادلة، فهو اجتهادشخصي هدف إلى نحت مصطلح يؤدي معنى مفهومréciprocité. وهذا من المفاهيم التي وظفها بولانيي لتحليل المجتمعات غير الأوروبية. وهي من أمثلة انغراس الاقتصادي في المستويات الأخرى. فالمبادلة تتحكم في عدد من أشكال التعامل الاجتماعي لدى الوحدات الاجتماعية المتناظرة كالقبائل أو أجزاء القبائل حيث أن انتقال الأمتعة وتبادل الخدمات بين المجموعات لا يحتاجان في الأغلب إلى وسائط مالية كما يحصل في التبادل الرأسمالي بل تتم معاوضة الخدمات والأمتعة في مدة تطول أو تقصر  وفي صيغ متنوعة منها الهدية والهدية المقابلة بالمناسبات، والتآزر أيام المحن والشدائد والعمل الجماعي لفائدة الفرد من قبيل التويزة مثلا. أفادني مفهوم المبادلة في فهم العلاقات بين القبائل وهي مبادلة متساوية إن صح التعبير، بحيث يستفيد جل الأفراد من الخيرات والخدمات على حد سواء على الأمد البعيد. لكن هناك مبادلة غير متساوية، ويتعلق الأمر بالعلاقة بين المخزن والقبائل. فالقبائل تقدم للمخزن هدايا وجبايات وكلف ومؤنة وأعمال تسخيرية والسلطان يدعو لها بالخلف والبركة في أرزاقها طالما هي في دائرة الطاعة، أو يسلط عليها العقاب إن هي خرجت منها. وهنا يلتقي مفهوم المبادلة بالمفهوم الثاني وهو إعادة التوزيع.
ثانيا- مفهوم إعادة التوزيع (redistribution)
ينطبق هذا المفهوم بصفة أشمل على المجتمعات القبلية الأوقيانية حيث تسلِّم القبيلة فائض محاصيلها إلى رئيسها قبل أن تعود لتستفيد منه إبان الأزمات الطبيعية أو خلال الولائم والحفلات المعروفة بالبوتلاتش (Potlatch).  ولكن هذا المفهوم مكّن مع ذلك من فهم بعض جوانب الإيديولوجية المخزنية وبعض ممارسات المخزن المركزي. وقد كان المخزن يمارس شكلا من أشكال إعادة التوزيع في مناسبات مختلفة ولاسيما إبان سنوات القحط والمجاعة حيث تفتح الأهراء وتُخرج الحبوب إما لتُباع في الأسواق للضغط على الأسعار حتى لا ترتفع بما لا يطيقه السكان أو لتُوزع على المعوزين في شكل خبز محضَّر.  وكانت مثل هذه المبادرات تحصل خلال المناسبات الدينية على وجه الخصوص فيما يبدو. ومن الجدير بالملاحظة أن المدينة كانت تستفيد من الإجراءات التوزيعية أكثر من البادية لأسباب واضحة.
ثالثا- مفهوم الانقسامية
انتشر هذا المفهوم بين الدارسين في الغرب وفي المغرب خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فكان لا بد من محاورته والتموقع إزاءه.
ومن رواد النظرية الانقسامية (segmentarité) في الأبحاث الأنثربولوجية بالنسبة للمغرب: إرنستگلنر (Ernest Gellner) الذي ألف كتابا حول صلحاء الأطلس، وهو رائد الأنتربولوجيا الاجتماعية،  وديفيد هارت (David Hart)الذي كتب حول أيت ورياغر بالريف بالإضافة إلى مجموعة من الكتب حول القبيلة والمجتمع والدولة بصفة عامة ثم روس دان (Ross Dunn) الذي بحث في قبائل الجنوب الشرقي  وريمون جاموس (Raymond Jamous)الذي درس أوضاع القبائل الريفية إلى جانب باحثين آخرين كثر. ثم انتقل توظيف مفهوم الانقسامية إلى  حقل العلوم السياسية حيث أعطاهجون واتربوري (John Waterbury) تألقا خاصا ووظفه توظيفا ذكيا جعل عددا من تحليلاته تحظى بكامل العناية إلى اليوم. هكذا جرى الحديث مؤخرا في الصحف عن بعض الزيجات التي كانت مناسبة كبرى لتحريك بعض القضايا الإستراتيجية في راهن المغرب من قبيل تصالح بعض القبائل الصحراوية المعروفة بعداوتها، وذلكعن طريق المصاهرة، وقد كان واتربوري من الباحثين الأوائل الذين ركزوا على أهمية المصاهرةضمن الطبقة السياسية المغربية على الرغم من كل الاختلافات السياسية أو الإيديولوجية الظاهرة ضمن أعضائها.
والملاحظ أن مفهوم الانقسامية عندما انتقل إلى اللغة العربية لم يصادف توافقا بين الباحثين فيما يتعلق بالمصطلح. نلامس هنا بعض التفاوت الذي قد يحصل بين المفهوم والمصطلح.  ففي تونس استُعمل مصطلح التجزؤية مقابلا له وبالمغرب، عربه عبد الكبير الخطيبي بلفظة التجزيئة بينمااستعمل أحمد التوفيق عبارةالانقسامية، وهي التي نالت الموافقة لدى العديد من المؤرخين.
تقوم النظرية الانقسامية على مبدأين أساسيين: مبدأ التعارض الأفقي المؤدي إلى التوتر والصراع بين الوحدات المتساوية في المستوى الأفقي ضمن المنظومة الانقسامية من جهة، ومبدإ التكاملالمفضي إلىى التعاون والتحالف بين الوحدات المتسلسلة في المستوى العمودي من جهة أخرى. وللتبسيط، يمكن استحضار المقولة الشهيرة  في نظام العصبية الخلدوني: أنا ضد أخي ولكن أنا وأخي ضد ابن عمي  ثم أنا وأخي وابن عمي ضد الغير. وقد تعرضت هذه النظرية لكثير من النقد من قبل باحثين مغاربة وغير مغاربة. ومن بين المغاربة نخص بالذكر جرمان عياش وعبد الله حمودي وعبد الله العروي، كل من منطلقاته الخاصة. والنقد الأساسي لهذه النظرية أنها نشأت لتعالج مجتمعات تفتقر إلى بنية الدولة وبالتالي فهي تفسر التوصل إلى حالة من الاستقرار في المجتمعات القبلية عن طريق الصراع بين الوحدات المكونة لها مما يؤدي في النهاية إلى التوازن فيما بينها، في حين أن للمغرب  مجتمعا قبليا ودولة بمواصفات خاصة. وانطلاقا من هذه الدراسات واعتمادا على الرصيد الهام من الوثائق المخزنية التي تتصل بالعلاقات بين المخزن والقبائل، تبين أنه بالإمكان تجاوز هذه النظرية مع الاستفادة منها فظهر من الإجرائي أن أستعمل عبارة الدولة الانقسامية لتوصيف الدولة المخزنية قبل الاستعمار، وهي دولة تتكيف مع النظام القبلي وتستفيد من إيجابياته وسلبياته إما عن طريق التحكيم أو بتأجيج الصراعات بين الوحدات القبلية أو بتعديد التحركات المجالية.
رابعا- مفهوم الحرْكة
لم تكن ظاهرة الحركة مجهولة لدى الباحثين المغاربة أو الأجانب. وقع الانتباه إلى أهميتها منذ وقت مبكر. واعتبرت من باب المعايير الأساسية لتقويم عهد من العهود. فقيل إن عرش السلطان إسماعيل كان على صهوة جواده ورُبط هذا بكيفية وثيقة بما عرفه عهده في المرحلة الوسطى على الأقل من أمن واستقرار. كما اعتُبر عهد الحسن الأول آخر العهود التي تمتع فيها المغرب ببعض العافية ورُبط ذلك أيضا بحركاته المشهورة حتى أن ابن زيدان صاحب الإتحاف حرص على العناية الكبيرة بهذه الحركات ورتبها ورقمها وتتبع مواقيتها ومواقعها بدقة فائقة. وقد أولاها الباحثون المعاصرون عناية خاصة، نذكر من بينهمدانيال نوردمان (DanielNordman) الذي نشر بحثه المؤسِّسبمجلة هسبِّريس-ثمودا (Hespéris-Tamuda) ومحمد أعفيف ضمن باحثين آخرين، ثم بحث كليفورد گيرتز (Clifford Geertz) في كتابه The Interpretation of Cultures تأويل الثقافات.  ولكن التركيز وقع على الجانب التنظيمي في الحركة وما ترمز إليه خلال التحرك عبر المجال وكذا التحكم في التنظيم السياسي والإداري عبر تحركات السلطان. وقد جاء الاستغلال المكثف للأرشيف خلال العهد الحسني ومقارنة النتائج بأبحاث سابقة ولا سيما بحث أحمد التوفيق باكتشاف مهم جدا وكاشف بالنسبة لنمط الحكم ونوعية الإدارة، حيث أن الحركات السلطانية الكبرى لم تكن سوى الشجرة التي تخفي الغابة. والغابة هي العدد الكبير من الحرْكات الصغيرة التي تُوجه في الاتجاهات الأربع بكيفية تكاد تكون منتظمة كلما توقف السلطان عن التحرك واستقر في إحدى العواصم الأربع (فاس ومراكش ومكناس والرباط). فكان لا بد هنا أيضا من اقتراح حصر لمعنى المصطلحات ومن هنا تم اقتراح قصر لفظ المحلة والمحال على التحركات السلطانية وتخصيص عبارة الحرْكة لهذه التنقلات الثانوية التي لم تثر انتباه ابن زيدان أو بقية الإخباريين إلا بصفة هامشية، في حين كانت هي المسؤولة الفعلية عن التدبير المخزني اليومي للمجال. ومن المفاجآت السارة أن تداخلت الحرْكات التي تم رصدها مع المحالِّ المعروفة كتداخل أسنان المشط.
خامسا- مفهوم مركز الاقتداء (Exemplary center ; Centre d’exemplarité)
كنت قد وظفته وعربته بمصطلح تقريبي هو المركز النموذجي ويتضح لي اليوم أن المصطلح الذي أقترحه هنا أدقُّ منه. فالأمر لا يتعلق بمركز نموذجي وإنما بمركز للتنمذج إن صح هذا الاستعمال. ومن هنا فمصطلح مركز الاقتداء أصح ويعطي المعنى المطلوب.
كليفورد گيرتز المتوفى سنة 2006 هو رائد المدرسة التأويلية في حقل الدراسات الأنثربولوجية. وقد قام بأبحاث كثيرة عن المجتمعاتالإندونيسية وعندما احتاج إلى مقارنتها بمجال إسلامي آخر، استقر رأيه على المغرب.  يروي مساره العلمي في كتابه After the Fact (بعد حدوث الواقعة). وقد جاء إلى المغرب بمعية فريق من الأنثربولوجيين من تلامذته من بينهم لاري روزن (Larry Rosen) وبول رابينو (PaulRabinow).
في مؤلفه (Islam Observed)،وهو معرب تحت عنوان الإسلام من وجهة نظر علم الأناسة: التطور الديني في المغرب وإندونيسيا – وهذا العنوان يفصح عن موقف متحفظ من محتوى الكتاب من لدن المترجم -  يقترح گيرتز مفهوم نموذج الاقتداء كمفهوم محوري لفهم المجتمع الإندونيسي، إلا أنه بدا من المفيد استلهام نفس المفهوم لمقاربة التصور الذي يرسخه المخزن لدى المجتمع حيث تمثل الحضرة السلطانية صورة من النظام الإلهي ومعيارا للنظام الاجتماعي. فالسلطان ظل الله في الأرض وهو أداة لتنفيذ الخطة الإلهية. ثم إنه هو وبلاطه وأجهزته المختلفة يمثلون قطبا تقتدي به بقية الدوائر المخزنية والمجتمع برمته.  من ذلك مثلا أن القواد ينزعون إلى محاكاة حياة البلاط في صيغة مصغرة، بحيث تكون لهم حاشيتهم الخاصة. وقد تبلغ المحاكاة حد نقل الأسلوب المخزني المركزي في مراسلاتهم مع السلطان.
ولعل بعض الممارسات الراهنة تحيل على نفس المفهوم: فالنخبة تعيد إنتاج ما ينتجه المركز. ثمة مثال معروف بمدينة الرباط.  فقد بُنيمسجد لالة سُكينة بحي الرياض ضمن أول ما بني بهذا الحي فتحولت معالمه الفنية والزخرفية إلى مشتل للاستلهام بالنسبة للنخبة السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية التي كانت بصدد تشييد إقاماتها بالحي المذكور. ولننتبه أيضا إلى مثال آخر يتعلق بمالحق طقوس الأعراس من تغيرات وإضافات بعد أن نُقلت الأعراس والحفلات الملكية على الهواء بواسطة التلفزة منذ 1986، مما أثر  في الممارسة العامة للمموِّلين ولأصحاب الأعراس.
وفي الختام لا بد من الإلحاح على ثلاثة ملاحظات:
  • الملاحظة الأولى أنه إذا كان على المؤرخ أن يتجول في الحقول المجاورة ليستلهم نتائجها، فإن تلك الحقول طالما استعملت نتائج الأبحاث التاريخية واستخرجت منها عددا من إسهاماتها النظرية العامة. إلا أن المؤرخ بات يصبو اليوم إلى المشاركة في النقاش العلمي العام المتصل بمختلف العلوم الاجتماعية.
  • الملاحظة الثانية تتعلق بصعوبة تطويع مفاهيم العلوم الاجتماعية خاصة عندما يتعلق الأمر بنقلها إلى اللغة العربية.
  • الملاحظة الثالثة تتمثل في كون البحث التاريخي والبحث في العلوم الاجتماعية بصفة عامة لا يزالان يفتقران إلى الجماعة العلمية التي تتفحص وتناقش، فتترك ما يستحق الترك وتبني وتراكم على ما يدعو إلى التراكم.


إرسال تعليق

 
الى الاعلى