0

رباط الكتب: 6 مارس 2011
رابط المقال: http://ribatalkoutoub.com/?p=579
شكلت كتابات فيرناند بروديل في القرن العشرين محطة رئيسية في المسار الإسطوغرافي الغربي بوجه عام، والفرنسي على وجه التحديد، في سياق ما سمي بمدرسة الحوليات. وتوافق هذه الكتابات ظرفية ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي تميزت بغلبة التحليل البنيوي، إذ اهتم الجيل الثاني لمدرسة الحوليات بالبنيات الاقتصادية والجغرافية والديموغرافية. ويظهر جهد فيرناند بروديل الإسطوغرافي في تناول التاريخ انطلاقا من تعدد الأزمنة أو الآماد، كشبكة من المفاهيم لإدراك التاريخ، من البنيات أو الزمن الطويل، إلى الأحداث، مرورا بالزمن الدوري، مع التركيز على الأمد الطويل، كما يتبين من خلال الكتاب المرجعي البحر المتوسط والعالم المتوسطي على عهد فيليب الثاني، وذلك ضمن مشروع صياغة جديدة للعلوم الاجتماعية حول برنامج رئيسي يتمحور حول مفهوم الزمن الطويل.
I- سياق إسطوغرافي كثيف
منذ السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر كان قد بدأ حوار كبير بين التاريخ والعلوم الاجتماعية، وخاصة الجغرافيا وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد، تمهيدا لظهور تيار إسطوغرافي جديد هو الحوليات. وكان الفيلسوف الفرنسي هنري بير (Henri Berr) هو الذي أعطى انطلاقة هذا الحوار. يقول فيرناند بروديل: “هذا الرجل هو إلى حد ما الحوليات قبل نشوءها، منذ سنة 1900، وربما قبل ذلك، منذ سنة 1890. إليه يجب الرجوع إذا أردنا أن نعرف كيف بدأ كل شيء”1. لقد ساهم هنري بير في تطوير الكتابة التاريخية من خلال مؤسستين معرفيتين كبيرتين:
أولا، مجلة التركيب التاريخي التي أنشأها سنة 1900، والتي احتضنت صفحاتها مساهمات متعددة الاختصاصات، دعت معظمها إلى تحطيم الحواجز بين علوم الإنسان قصد الوصول إلى فهم عميق للواقع الاجتماعي. لقد شكلت هذه المجلة، حسب لوسيان فيفر (Lucien Febvre) في مقالة له تحت عنوان “من مجلة التركيب إلى مجلة الحوليات”، بؤرة انبثقت منها طموحات إنشاء مجلة جديدة تخدم هي أيضا المعرفة التاريخية وتقدمها، ألا وهي حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي2. ويلاحظ المتتبع لظرفية منعطف القرن العشرين المعرفية أن مجلة التركيب ظلت، على الرغم من النقاش العلمي العميق الذي أحدثته في الساحة الثقافية، على هامش الجامعة، وفي حاجة إلى “شرعية أكاديمية”. أما مجلة الحوليات فقد ظهرت في قلب الجامعة، جامعة ستراسبورغ التي شكلت واجهة ثقافية لامعة ومجددة للفكر الفرنسي في وجه ألمانيا عقب الحرب العالمية الأولى3.
ثانيا، “أسابيع التركيب”، وهي ملتقيات فكرية منتظمة جمعت مثقفين من تخصصات مختلفة لطرح أفكارهم ومناهجهم: مؤرخون وجغرافيون وسوسيولوجيون واقتصاديون وفلاسفة، منهم المؤرخ الاقتصادي هنري هوسير (Henri Hausser)، والسوسيولوجي والاقتصادي فرانسوا سيمياند (François Simiand)، والسوسيولوجي موريس هالفاكس (Maurice Halbwachs)، والفيلسوف ليون برانشفيك (Léon Brunschwig )، والمؤرخان الشابان لوسيان فيفر ومارك بلوك.
لكن هذا الحوار ظل نظريا محضا، ولم يتجسد على نحو عملي في الأبحاث التاريخية. وهذا الانتقال باتجاه أعمال يظهر فيها بالملموس التفاعل بين التاريخ والعلوم الاجتماعية ارتبط بالمشروع الذي قاده كل من لوسيان فيفر ومارك بلوك اللذين وفرا الشروط المعرفية الضرورية للحوار المثمر، وذلك في ثلاثة اتجاهات:
  مع المدرسة الجغرافية التي كانت قد تألقت في بداية القرن العشرين بواسطة مجموعة من الجغرافيين الكبار، أمثال فيدال دولابلاش (Vidal De La Blache) وألبير دومانجون (Albert Demangeon)، إذ اقترحت “مقاربة شمولية لتحليل الواقع الاجتماعي بناءً على جدلية العلاقة بين الزمن والمجال والبشر، ممارِسة بذلك “تأثيرا مؤسسا” على المؤرخين، ومسهمة في التصور الجديد الذي حملته الحوليات4. ويُبرز كتاب لوسيان فيفر “الأرض والتطور البشري، مقدمة جغرافية للتاريخ” الصادر عام 1922، الاحتكاك الكبير بين التاريخ والجغرافية، وأيضا النقاش النقدي لبعض النظريات الجغرافية مثل “الحتمية الميكانيكية”.
  مع المدرسة السوسيولوجية التي نشطت في نفس الفترة بفضل إميل دوركايم (Emile Durkheim) الذي حاول، من جهته، أن يجعل من علم الاجتماع علما موحِّدا لعلوم الإنسان، انطلاقا من مقاربة شمولية لفهم المجتمع. لقد لعبت السوسيولوجيا الدوركايمية، على الرغم من النقاشات الحادة مع التاريخ، دورا أساسيا في بلورة الرؤى الجديدة داخل مدرسة الحوليات. ويدل على هذا التلاقح كتاب مارك بلوك المجتمع الفيودالي، وحضور السوسيولوجي الدوركايمي، موريس هالفاكس، في هيئة تحريرمجلة الحوليات وقت انطلاقتها.
  مع علماء الاقتصاد الألمان، ولاسيما كارل ماركس (Karl Marx) وفون شمولير (Von Schmoller)، الذين قدموا للمؤرخين الفرنسيين الجدد أطرا نظرية وأدوات منهجية أساسية للتحليل التاريخي. على سبيل المثال، كان لهنري بيرين (Henri Pirenne) منذ سنة 1890، ومارك بلوك سنتي 1908-1909، احتكاك مع الاقتصاديين العاملين بجامعتي برلين وليبزيش، وحضور منتظم في ملتقيات المؤرخين الألمان السنوية5. ثم إن اسم المجلة الفرنسية الجديدة “حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي” التي أخرجها للوجود في يناير 1929 لوسيان فيفر ومارك بلوك، بتعاون مع المؤرخَين هنري بيرين وهنري هوسير، والجغرافي ألبير دومانجون، والسوسيولوجي موريس هالفاكس، وآخرين، اقتُبِس من اسم المجلة الألمانية “مجلة التاريخ الاقتصادي”6.
لقد خلق هذا الاحتكاك المعرفي والمنهجي العميق بين المؤرخين وجيرانهم في علوم الإنسان سلسلة من الأبحاث التاريخية، يمكن تقسيمها إلى نوعين كبيرين:
النوع الأول، ارتبط بأعمال منهجية حول البحث التاريخي، بيَّنت الإمكانيات العملية لاستفادة التاريخ من رصيد العلوم الاجتماعية. ومن أهم هذه الأعمال كتاب معارك من أجل التاريخ للوسيان فيفر، وهو مجموعة مقالات منهجية يمتد تاريخ كتابتها من 1906 إلى 1952، وكتاب مهنة المؤرخ لمارك بلوك، الذي يعد بيانا في المنهج، لم يتمكن صاحبه من إتمامه بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية التي عصفت بحياته. وهذان الكتابان يزخران برؤى منهجية حفزت المؤرخين على متابعة نتائج الأبحاث الجغرافية والسوسيولوجية والاقتصادية، أي الخروج من الانغلاق التخصصي، وعدم الاقتصار على ما تبوح به الوثائق على النحو الذي أظهرته مدرسة السوربون التقليدية.
النوع الثاني، تجلى في أبحاث تاريخية ملموسة جسدت التلاقح بين العلوم، نذكر منها كتاب حركة الأسعار والمداخيل في فرنسا خلال القرن الثامن عشر لإرنست لابروس (Ernest Labrousse)، الصادر سنة 1933، وكتاب المجتمع الفيوداليلمارك بلوك، الصادر عام 1936.
II – ابتكار تعدد الأزمنة
هذا إذن هو الرصيد المنهجي والمعرفي الذي تشبع به فيرناند بروديل، لاسيما وأن هذا الأخير كان قد اشتغل في أطروحته حول الحوض المتوسط خلال القرن السادس عشر لمدة تقارب العشرين سنة تحت إشراف مؤسس الحوليات، لوسيان فيفر. فكانت الإضافة النوعية التي قدمها فيرناند بروديل، في أواسط القرن العشرين، هي ابتكار مفهوم الأمد الطويل ضمن رؤية تاريخية منسقة تقوم على أساس تعدد الآماد، أثرت تأثيرا محدِّدا في معظم الأبحاث اللاحقة.
يقول بروديل في مدخل أطروحته التي تقدم بها للمناقشة عام 1947، ونشرها سنتين بعد ذلك: “ينقسم هذا الكتاب إلى ثلاثة أبواب، كل واحد يعد في حد ذاته محاولة في التفسير. الأول يتعلق بتاريخ شبه ثابت، تاريخ الإنسان في علاقاته مع الوسط الجغرافي المحيط به، تاريخ بطيء السيل والتحول، مكون في الغالب من عودات ملحة وحلقات متكررة باستمرار… وفوق هذا التاريخ شبه الثابت يمتد تاريخ بطيء الإيقاع، وقد نقول عن طيب خاطر، إذا لم تنحرف العبارة عن معناها الكامل، تاريخ اجتماعي، تاريخ الجماعات والتجمعات… وأخيرا باب ثالث مخصص للتاريخ التقليدي، أو إذا أردنا تاريخ على مستوى الفرد وليس الإنسان، تاريخ حدثي… تاريخ ذو تذبذبات قصيرة، سريعة، متوترة… وهكذا توصلنا إلى تفكيك التاريخ إلى ثلاثة مستويات متدرجة، إلى التمييز ضمن زمن التاريخ بين زمن جغرافي وزمن اجتماعي وزمن فردي”7. هذا “التصميم الجديد والثوري”، حسب تعبير لوسيان فيفر8، يتناول على نحو جدلي عميق العلاقة بين المجال والزمن، ويفرز تعددية في الأزمنة أو الآماد: زمن طويل يوافق تاريخيا بنيويا يمتد على مدى قرون، وزمن دوري يوافق تاريخا ظرفيا، وزمن قصير يوافق تاريخا تقليديا.
وتعليقا على هذا التصور، صرح المؤرخ الاقتصادي، إرنست لابروس، وهو أحد الأعضاء الخمسة المكونة للجنة مناقشة أطروحة بروديل، قائلا: “إن هذا التصور للتاريخ الذي ينطلق من الأرض نحو الإنسان، ونحو أعلى أنشطة الإنسان، لجديد وعظيم… إن عملا من مستوى عال كهذا سيكون له شأن كبير في الإسطوغرافيا العالمية”9. وبالفعل، شكلت أطروحة فيرناند بروديل منذ صدورها عام 1949 نموذجا للبحث التاريخي لدى الكثير من المؤرخين في فرنسا وخارجها. فلنفسر إذن المفاهيم المكونة لهذا الرؤية.
الزمن الطويل (Le Temps Long)
الزمن الطويل هو المستوى العميق للواقع التاريخي، إذ يشكل المركز الذي ينجذب حوله الزمن الدوري والزمن القصير، في إطار جدلية الآماد. إن التاريخ واقع معقد، ولذلك يستلزم تحولا عموديا في الرؤية. “إن قبول المؤرخ لهذه الرؤية، يقول بروديل، يعني تغيرا في الأسلوب والموقف، يعني انقلابا في نظام التفكير، يعني تصورا جديدا للواقع الاجتماعي، يعني تكيفا مع زمن بطيء”10. لكن الزمن الطويل لا يمكن فهمه بعمق إلا بالعلاقة مع مفهوم آخر هو “البنية”، لأن تاريخ الأمد الطويل هو تاريخ بنيات جغرافية واقتصادية واجتماعية وذهنية متأصلة وبطيئة التطور. والبنية هنا يستعملها بروديل بمفهوم تاريخي يختلف عن المعنى الذي تمنحه إياها السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا.
ففي حواره مع كلود ليفي ستراوس (Claude Lévi-Strauss) يقول بروديل، محددا مفهوم البنية في بعدها الزمني الطويل: “لدى الملاحظين للواقع الاجتماعي، البنية هي تنظيم وتجانس وعلاقات ثابتة إلى حد ما بين الواقع والشرائح الاجتماعية. أما بالنسبة إلينا، نحن المؤرخين، البنية هي من دون شك، تركيب وهندسة، بل الأكثر من ذلك هي واقع يتصرف فيه الزمن بشكل سيء، ويقوده على نحو بطيء جدا، إذ أن بعض البنيات تصير، بفعل صمودها زمنا طويلا، عناصر ثابتة على مدى أجيال، فتثقل كاهل التاريخ وتعرقله، وتتحكم بالتالي في مساره، وترسم حدودا يعجز البشر بتجاربهم عن تجاوزها. فكِّروا في صعوبة تحطيم بعض الإطارات الجغرافية، بعض الوقائع البيولوجية، بعض الحدود الإنتاجية… طيلة قرون من الزمن والإنسان سجين مناخات ونباتات ومواشي وزراعات في إطار توازن بطيء البناء وصعب التجاوز… انظروا إلى مكانة الانتجاع في الحياة الجبلية، انظروا إلى استمرارية بعض قطاعات الحياة البحرية الراسخة في مفاصل معينة من الساحل، انظروا إلى مدى استمرارية تأصل مواقع المدن، ومدى استمرارية المسالك والتنقلات، ومدى الثبات المدهش للإطار الجغرافي للحضارات”11.
يظهر الأمد الطويل في الباب الأول من الكتاب، المعنون بِـحصة المجال، الذي يتعرض فيه بروديل لمختلف الوحدات الجغرافية المكونة للمجال المتوسطي من حيث السكان ووتيرة الحياة: الجبال وأهاليها وتقاليدها والتنقلات المنتظمة والمتكررة للرعاة والمواشي، السهول وكبار مالكي الأراضي، والفلاحين الفقراء والأمراض الناجمة عن المياه الراكدة، السواحل والموانئ والرياح والإيقاعات الملاحية، المناخ كوحدة طبيعية ومتغيرة حسب الفصول المتعاقبة والمحددة لوتيرة الحياة الزراعية والملاحية والبيولوجية، الطرق والمدن أو المدن والطرق بحركيتها ووظائفها وأزماتها.
ونلمس نفس الرؤية في عمل ضخم آخر هو الحضارة المادية والاقتصاد والرأسمالية12، الذي اتخذ بعدا عالميا، في سياق من التاريخ المقارن بين أوربا والعوالم الأخرى على مدى الأزمنة الحديثة، قبل التحولات الصناعية. ففي المجلد الأول الصادر تحت عنوان البنيات اليومية تتبع بروديل البنيات الأساسية للحياة الاجتماعية والاقتصادية والتقنية والديموغرافية والبيولوجية وإيقاعات تطورها وثباتها في الزمن الطويل من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر، التي نعتها بِـ “الاقتصاد التحتي”، أي ذلك النشاط الأساسي الذي تمارسه الجماعات البشرية في كل مكان بوتيرة بطيئة التطور.
إن دراسة البنيات المادية في هذين الكتابين،الحوض المتوسط والحضارة المادية، هي ثمرة احتكاك كبير بين مدرسة الحوليات من جهة، والمادية التاريخية والبنيوية من جهة ثانية. أما بالنسبة للمادية التاريخية فقد حصل تلاقح غير صريح بين مؤرخي الحوليات وأدوات التحليل الماركسي، إذ أن بروديل الذي كان يكن تقديرا علميا كبيرا لكارل ماركس، يبدو في دراسته للحياة المادية وكأنه يجسد عمليا التصور المادي للتاريخ. لقد جاء في الإيديولوجيا الألمانية: “لكي يعيش المرء عليه أولا وقبل كل شيء أن يأكل ويشرب ويلبس … فأول واقع تاريخي هو إذن إنتاج الوسائل التي تمكن من تلبية هذه الحاجيات، إنتاج الحياة المادية نفسها، هنا يكمن الواقع التاريخي، ذلك الشرط الأساسي لكل التاريخ، الذي علينا اليوم، كما هو الشأن منذ آلاف السنين أن نعيشه يوما عن يوم”13. هذه الرؤية الماركسية نجدها في قلب المشروع البروديلي. وبروديل نفسه يعترف بهذا الأمر عندما يقول: “عبقرية كارل ماركس وسر سلطته المعرفية الدائمة يجدان تفسيرا في كونه كان أول مفكر ابتكر نماذج اجتماعية واقعية انطلاقا من الأمد التاريخي الطويل”14.
وأما بالنسبة للعلاقة مع البنيوية فتظهر في الاعتناق المنهجي للتحليل البنيوي، ولكن بطريقة نقدية جعلت مفهوم البنية يشتغل في الأمد الطويل. وهذا الاعتناق أملته ظرفية ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذ هيمنت البنيوية على العلوم الاجتماعية15.
الزمن الدوري (Le Temps cyclique)
الزمن الدوري أو زمن الحلقات الدورية يعني، من منظور بروديل، “تاريخ الظرفية”، تاريخ التذبذبات الدورية التي يعيشها الاقتصاد، مثل ارتفاع الأسعار وهبوطها، الذي يمكن التعامل معه عبر مقاطع زمنية من عشر أو عشرين، وحتى خمسين سنة. إذا نظرنا إلى الباب الثاني من كتاب البحر المتوسط، الوارد تحت عنوان مصائر جماعية وحركات المجموع، وأخذنا على سبيل المثال أسعار القرن السادس عشر في أوربا الذي شهد تراكما ورواجا ماليين كبيرين سنجد البيان الآتي:
  ارتفاع الأسعار إلى حدود سنة 1558
  هبوط الأسعار ما بين 1558 و1567
  ارتفاع الأسعار ما بين 1567 و1576
  هبوط الأسعار ما بين 1576 و1588
إن تاريخ الظرفيات المبني على أساس الأرقام والجداول والرسوم البيانية نشأ في فرنسا بفعل الاحتكاك مع علماء الاقتصاد الألمان، كما ذكرنا سالفا، وفي ظل مناخ أزمة 1929 التي دفعت الكثير من المؤرخين والاقتصاديين إلى البحث عن أصول الأزمة الرأسمالية ومن ثم الكشف عن تعاقب مراحل الاتساع ومراحل التراجع الاقتصادي. وكانت النتيجة هي بروز أعمال هامة لباحثين جمعوا بين التاريخ والاقتصاد، في طليعتهم إرنست لابروس الذي رصد تتابع الدورات الاقتصادية في فرنسا خلال القرن الثامن عشر والظرفية التي أفرزت الثورة الفرنسية.
والمطلع على الباب الثاني من كتاب فيرناند بروديل يفهم إلى أي حد جمع هذا الأخير، على نحو جدلي عميق، بين البنيات والظرفيات، أي بين الزمن الطويل والزمن الدوري، بين الثابت والمتحول. والجدير بالذكر في هذا الصدد هو أن الدورات وما بين الدورات والأزمات إذا تكررت باستمرار ولم تسفر عن تحول نوعي تندرج في البنية وتصير مكونا أساسيا من مكوناتها.
وقد أثر هذا التصور الجامع بين الزمن الطويل والزمن الدوري على أبحاث كثيرة في الخمسينيات، تعد من المراجع الأساسية في التاريخ، نذكر منها إشبيلية والمحيط الأطلسي في القرنين السادس عشر والسابع عشر لبيير شوني (Pierre Chaunu)، والبرتغال والمحيط الأطلسي في القرن السابع عشر لفريديريك مورو (Frédéric Mauro). هذا بالإضافة إلى دراسات ذات سمة مونوغرافية قدمت نتائج هامة في البحث التاريخي القائم على سلسلات الإنتاج ودوراتها، أهمها كتاب فلاحو لانغدوك لإيمانويل لوروا لادوري (Emmanuel Le Roy Ladurie).
الزمن القصير (Le Temps Court)
يرتبط المستوى الثالث من مفاهيم التحليل البروديلي بِـ “التاريخ التقليدي المتنبه للزمن القصير، للفرد، للحدث”، أي التاريخ الملتصق بسرد الأحداث على نحو سريع ودرامي. ويحذر فيرناند بروديل من الزمن القصير لأنه “أكثر الآماد تقلبا وخداعا”، لأن الأحداث “تخترق التاريخ مثل الأضواء، لكنها سرعان ما تخفت وتغيب”.
لكن بروديل شدد، في نقاشه للزمن القصير، على ضرورة التمييز بين التاريخ الحدثي والتاريخ السياسي، لأن هذا الأخير ليس بالضرورة حدثيا. “إن المشكل، يقول صاحب البحر المتوسط، هو أن التاريخ غلب عليه، خلال المائة سنة الأخيرة، الطابع السياسي، وركز على الأحداث الكبرى، واشتغل ضمن الزمن القصير”. ومعنى ذلك أن التاريخ السياسي بإمكانه الاهتمام بقضايا أكثر عمقا من التاريخ الحدثي، إذ عوض التركيز على الأشخاص وتسلسل الأحداث يمكن الدخول في نقاشات من نوع آخر، تصب بالأساس في الآليات الاجتماعية للسلطة والعلاقات بين الدولة والمجتمع. وهكذا، من الممكن دراسة التاريخ السياسي عبر قنوات متعددة، منها:
  الاهتمام بالسياسة كشكل اجتماعي وثقافي
  مقاربة أنثروبولوجية للمؤسسات السياسية
  التفكير في دور الإيديولوجيا في تكوين الحقل السياسي
إن الباب الثالث من كتاب البحر المتوسط…الذي يحمل عنوان الأحداث السياسية والأفراد يجمع في طياته بين تحليل المؤسسات السياسية والتنظيمات العسكرية البرية والبحرية للقوتين الإسبانية والعثمانية، وعرض الأحداث الكبرى الناتجة عن صراع هاتين القوتين داخل الحوض المتوسط في النصف الثاني من القرن السادس عشر، في عهد ملك إسبانيا فيليب الثاني. وبذلك يعد هذا الباب مساهمة في التاريخ السياسي والديبلوماسي والعسكري، وتنازلا كبيرا قدمه بروديل للمدرسة الوضعانية التي كانت لا تزال تحافظ في الأربعينيات من القرن العشرين على مواقع هامة في الجامعة. لكن هذا التنازل يدخل ضمن تصور معلن، إذ أن احتلال التاريخ السياسي للباب الثالث والأخير كان يعني أن المكانة الرئيسية تبقى للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي.
لقد كرس فيرناند بروديل جهوده من أجل فتح التاريخ أكثر فأكثر على مناهج العلوم الاجتماعية ومفاهيمها، وتناول الكتابة التاريخية من خلال تعدد الأزمنة أو الآماد، كشبكة مفاهيمية لإدراك التاريخ، من البنيات أو الزمن الطويل، إلى الأحداث، مرورا بالزمن الظرفي، الدوري، مع التركيز على الأمد الطويل ضمن مشروع إعادة تنظيم مجموع العلوم الاجتماعية حول برنامج موحد يسعى إلى فهم الواقع الاجتماعي في شموليته، وبناء تاريخ كلي (Histoire totale). هكذا دشن فيرناند بروديل لمرحلة من البحث في تاريخ بنيوي، كمي، بلغ فيها إشعاع هذا الرجل، ومن خلاله إشعاع مدرسة الحوليات، درجة العالمية.
الهوامش
1- فيرناند بروديل، “تكويني كمؤرخ”، ضمن محمد حبيدة، من أجل تاريخ إشكالي، ترجمات مختارة، القنيطرة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة، ص 68.
2-L. Febvre, «Hommage à Henri Berr. De la revue de Synthèse aux Annales» (1952), in Combats pour l’histoire, Paris, A. Colin, 1953, pp. 340-341.
3- J. Revel, «Histoire et sciences sociales. Les paradigmes des Annales», inAnnales ESC, n° 6, 1979, p. 1367.
4- A. Burguière, «Histoire d’une histoire. La naissance des Annales», in Annales ESC, n° 6, 1979, p. 1351.
5- F. Mendels, «Histoire économique», in A. Burguière, Dictionnaire des sciences historiques, Paris, PUF, 1986, pp. 215-223.
6- P. Leuillot, «Aux origines des Annales d’histoire économique et sociale. Contribution à l’historiographie française», in Mélanges en l’honneur de Fernand Braudel, Toulouse, Privat, 1973, t. II, pp. 317-324.
7- F. Braudel, La Méditerranée et le monde méditerranéen à l’époque de Philippe II (1558-1598), Paris, A. Colin, 1949, éd. 1986, t. I, pp. 13-14.
8- L. Febvre, «Vers une autre histoire» (1949), in Combats, p. 432.
9- E. Labrousse, «En guise de toast à Fernand Braudel: aux vingt cinq ans de Méditerranée», in Mélanges, t. I, pp. 10-11.
10- F. Braudel, «Histoire et sciences sociales : La longue durée», in Ecrits sur l’histoire, Paris, Flammarion, 1969, p. 54.
11- Ibid., pp. 50-51.
12-F. Braudel, Civilisation matérielle, économie et capitalisme, XVe -XVIIIe siècles, 3 volumes, I: Les structures du quotidien ; II : Les jeux de l’échange; III: Le temps du monde.
13- K. Marx et F. Engels, L’idéologie allemande (1846), Paris, Editions sociales, 1968, p. 57.
14- F. Braudel, «Histoire et sciences sociales…», p. 80. حول العلاقة بين الماركسية والحوليات، انظر:
P. Vilar, «Histoire marxiste, histoire en construction»,in J. Le Goff et P. Nora (éd.), Faire de l’histoire, t. I (Nouveaux problèmes), Paris, Gallimard, 1974, pp. 169-209 ; G. Bois, «Marxisme et histoire nouvelle», in J. Le Goff (éd.), La Nouvelle Histoire, Paris, Retz, 1978, pp. 375-393.
15- حول هذه الصلة بين التاريخ والتحليل البنيوي، راجع:
Annales ESC, Numéro spécial, 3-4, 1971 ; K. Pomian, «Histoire des structures», in J. Le Goff (éd.), La Nouvelle Histoire…, pp. 528-553.

إرسال تعليق

 
الى الاعلى