إن التاريخ يتم بالوثائق ‘ هذه المقولة لشارل لنكوا وشارل سينوبوس مقولة صحيحة , لكنها تفرض ضرورة تحديد مفهوم الوثيقة أو المصدر , فماذا نقصد بالوثيقة ؟ إن القاموس يعرف الوثيقة بكونها مصدر كل خبر, إنها حجة وشاهدة على وقوع الحدث.
في الماضي كان المصدر التاريخي لا يخرج عن دائرة الوثائق المكتوبة وبقايا الآثار, لكن مع مرور الزمن اتسعت لائحة المصادر التاريخية , وتعاملت المدرسة الوضعية مع الوثيقة باعتبارها :
_ الوسيلة التي تطلعنا على الماضي .
_ الأداة التي يعمل بها المؤرخ.
_ الحجة على أن التاريخ علم , فالكشف عن الوثائق يعني معرفة الحقيقة التاريخية .
وقد وضع لأنجلو وسينوبوس في كتابهما ”مدخل للدراسات التاريخية ” قواعد لاستغلال الوثيقة ، وأهمها التحليل الاستقرائي للوثيقة عن طريق اتباع الخطوات التالية :
1_البحث عن الوثائق وتصنيفها مع الاستعانة بالعلوم المساعدة (الفيلولوجيا:علم اللغة) الباليوغرافيا(علم قراءة النصوص القديمة) والاركيولوجيا والأيكرافيا (علم النقوش), لذلك فعلى المؤرخ أن يكون موسوعي الثقافة متخصصا عارفا بالعلوم المتصلة بالتاريخ .
2_مرحلة النقد الخارجي , هل الوثيقة صحيحة ؟ ما مصدرها ؟ من مؤلفها : أي التحقق من صدق الوثيقة .
3_ مرحلة التصنيف والترتيب المنهجي للمعلومات التي تتناولها الوثيقة.
4_ مرحلة النقد الداخلي للوثيقة ، أي استخراج الحقائق التاريخية عن طريق التحليل الاستقرائي لمضمون الوثيقة.
إن هذه الطريقة في معالجة الوثائق التاريخية حظيت بشهرة واسعة وما تزال ، إلا أن مدرسة الحوليات أعادت النظر في هذه المنهجية محققة قفزة ابستمولوجية مهمة , حيث أعاد النظر في مفهوم الوثيقة نفسه ، فقد أكد لوسيان فيبر “أن التاريخ يعتمد على الوثائق المكتوبة , هذا أمر لا ريب فيه , غير أنه يمكن القيام بالتأريخ اعتمادا على ما تسمح به عبقرية المؤرخ وبراعته ، على الكلمات , الرموز, ملاحظة الحقول والمناظر الريفية والطوب , وتحليل الأدوات الفلاحية , وفحص الأحجار ,…
بكل هذا يستطيع المؤرخ سبر أغوار الماضي , وهذا يتوقف على ذكاء المؤرخ وسعة ثقافته , مع مدرسة الحوليات ..
إذن اتسع مفهوم الوثيقة واتسعت معه لائحة المصادر ، وازدادت اتساعا , فحتى الأساطير والتمثلات والفلكلور والعادات والتقاليد تم الاستفادة منها في البحث التاريخي .
المصادر التاريخية هي نتاج عملية بناء
يجب التأكيد أن الوثائق المكتوبة والمذكرات والنصوص والشهادات الشفوية , كل هذه الآثار هي نتاج عملية بناء , أي أن هذه المصادر مبنية من لدن أناس في الماضي , يقوم المؤرخ اليوم بدوره بعملية إعادة بناء تلك الأحداث بطريقة مشابهة مغايرة , وهذا هو صلب الاختلاف بين المدارس التاريخية , فإذا كان المؤرخون الوضعانيون ينطلقون من الوثيقة ” تحقق أولا من وقائعك ، ثم قم باستخلاص نتائجك منها ” فإن المؤرخين الحاليين هم الذين يضفون صفة الوثيقة على هذا المصدر أو ذاك , فرضياته وتساؤلاته هي التي تجعله يحتفظ بنوع من الوثائق كي يثبت أو يلغي فرضياته , فهو لا يحشر نفسه في موقف استقرائي “إخراج الأحداث والحقائق من الوثيقة “وهو بهذا يدخل ضمن منهجية تعتمد الإشكالية كأساس للبحث ..
ولعل هذا ما قصده هنري مارو بقوله : ‘إن الوثيقة غير موجودة في حد ذاتها بشكل سابق عن تدخل المؤرخ ، كما إن البروفيسور أوكشوت عبر عن ذلك بصراحة أكثر فقال : “التاريخ هو تجربة المؤرخ , إنه ليس من صنع أحد سوى المؤرخ ، وكتابة التاريخ هي الوسيلة الوحيدة لصنعه”.
ومن هنا نستنتج أن الوثيقة ليست تلك المادة الجامدة التي يحاول المؤرخ الوصول من خلالها إلى ما تم بالفعل في الماضي (وهو تمثل التلاميذ) أي أنه لا يمكن إدراك الماضي كما كان ، بل كما نتوهم أنه كان ، وبالتالي فالمؤرخ يقوم باعادة بناء الأحداث والوقائع من منظوره الخاص ، فالتاريخ إذن هو عملية بناء (اجمع وثائقك أولا ، ثم قم بتحليلها ، وأقحم نفسك في خطر رمال التفسير والتأويل عن طريق جمع الوثائق والعمل على توزيعها وتنظيمها وترتيبها ، وفرز الملائم من غير الملائم ، ثم يقوم بطبخها ، ومن ثم يقدمها بالأسلوب الذي يروق له)
يتضح لنا الآن أنه لا يمكن كتابة التاريخ كما تم بالفعل ،لأنه يبقى دائما مجالا خصبا للقول كلما بقيت الحياة مجالا للاكتشاف ، وكلما بقي الفكر قادرا على البحث والاستقصاء ، كما نخلص أيضا إلى أن المؤرخين أدركوا اليوم أنه إذا أمكن اعتبار كل أثر للماضي البشري مصدرا فإن هذا المصدر ليس معطى.
وقبل أن نتناول موضوع الاستعمال المدرسي للوثيقة التاريخية أشير إلى بعض الصعوبات التي تقف في وجه التعامل مع الوثيقة ، وألخصها فيما يلي
_ غياب وثائق مكتوبة في الماضي السحيق (عصر ما قبل التاريخ)
_ صعوبة التعامل مع وثائق القرون الوسطى لأنها محفوفة بالمخاطر ، فمعظمها طمست تحت تاثير حزازات سياسية أو خلافات مذهبية أو بدافع الكراهية والتعصب ، فلم تصلنا إلا القلة القليلة من الوثائق التي تم نسخها عن الأصل ، وبالتالي فالوثائق نادرة .
وفي بعض الأحيان يصبح العكس هو المشكلة ، حيث تكون الوثائق كثيرة كما هو الحال عند دراسة التاريخ المعاصر ، فتحتاج هذه الوثائق إلى التدقيق العميق والتمحيص الرزين، وعلى ذلك نؤكد مرة أخرى أن اختيار الوثائق القابلة للاستخدام بالنسبة إلى سؤال مطروح مسبقا ليس سوى عملية بناء آلية محضة ، بل إنها فرصة لعبقرية الباحث كي يثبت مهاراته في التنقيب والتحليل والتفسير _ وهناك صعوبة أخرى تقف أمام الباحث المؤرخ ، وحتى مع الأستاذ فيما يتعلق بدراسة تاريخ الزمن الحاضر ..
فبقدر ما يمكن الاستفادة من الشهادات الشفوية بقدر ما نعاني من صعوبة استغلال الوثائق المكتوبة ، والتي لا توضع رهن الإشارة إلا بعد مرور عقدين من الزمن أو أكثر ، وتزداد المشكلة تعقيدا عند دراسة الأحداث المباشرة ، حيث تتعدد الأخبار وتتنوع التقارير التي تنقلها وسائل الإعلام المرئية والسمعية والمكتوبة ، فهل يمتلك الأستاذ الأدوات الكافية لقراءة الأحداث الساخنة المختلفة والمتناقضة أحيانا ، وهذه هي المفارقة الموجودة بين مؤرخ المراحل الماضية ، حيث يعرف مسبقا مآل الأوضاع ومصيرها بعد وقوع الحادثة التي يؤرخ لها ، وبالتالي يسهل عليه القيام بعملية الانتقاء والبناء والتفسير والتحليل ، أما الأستاذ الذي يتناول موضوعا معاصرا يعرف في الحقيقة أنه تحول من مدرس للتاريخ إلى مجرد صحافي متنور من الدرجة الثانية ..
الاستعمال المدرسي للوثيقة من أجل بناء درس التاريخ.
تلح التوجيهات التربوية على استعمال النصوص والوثائق التاريخية, وتقترح في هذا الإطار طريقة نختصرها فيما يلي:
_ مرحلة القراءتين (قراءة الأستاذ ثم قراءة تلميذ أو تلميذين) .
_ وضع النص في إطاره الزماني والمكاني .
_ شرح المصطلحات الصعبة (الأعلام, المفاهيم…) .
_ طرح الأسئلة بغرض تفكيك النص إلى مجموعة أفكار رئيسية أو ثانوية .
_ استنتاجات، فربط النص بالدرس.
إلى أي حد تساير هذه الطريقة المتبعة التطور الحاصل في استعمال الوثائق والنصوص في بناء المعرفة التاريخية الصحيحة.
إن قراءة مختلف المذكرات والتوجيهات التربوية الرسمية تبرز المكانة التي تحتلها النصوص ومختلف الوثائق في درس التاريخ ، سواء على مستوى الكم أو الكيف أو على مستوى الاستعمال الديداكتيكي , ولكن يجب أن نميز بين نوعين من الوثائق داخل القسم ،الوثائق التاريخية بالمعنى الصحيح والدقيق (المصادر ), ثم الوثائق المختارة والمنجزة من قبل مؤلفي الكتب المدرسية لأغراض ديداكتيكية , حيث يتم الانتقال من المعرفة الأكاديمية إلى المعرفة المدرسية عبر المعرفة الواجب تدريسها .
كما أننا نتوقف أمام إشكال آخر ، يتعلق الأمر بالأهداف المرجوة من وراء استعمال الوثيقة في درس التاريخ , في البداية هاجس الاستغلال البيداغوجي هو الهدف , حيث كانت الوثيقة تستعمل كأداة مساعدة للأستاذ يضفي من خلالها الحيوية على خطابه , ويقدم بفضلها الدليل الملموس على صدق كلامه (الطريقة شبه الإلقائية) مما يساعد على تحويل مضمون الدرس من شيء مجرد إلى شيء شبه ملموس ..
فالوثيقة هنا بمثابة مرآة تعكس الواقع المدروس ، وعندما ظهرت الطرق الفعالة والنشيطة تعزز دور الوثيقة ، وأصبحت تساعد التلاميذ وتحفزهم أكثر على المشاركة من خلال الحوار , كما ساهمت الوثيقة/النص في تقليص الوقت الذي كان يحتكره المدرس في الكلام لصالح نشاط المتعلم , كما أن الأسئلة التي يطرحها الأستاذ تساهم في مشاركة التلاميذ الفعلية في بناء درس التاريخ ، وهذا شيء مهم , لكن الخطر يكمن في أن هذه الطريقة تؤدي إلى استخراج المعلومات من النص على أنها حقائق مطلقة , وهو ما يعطي تمثلات خاطئة عن الأحداث التاريخية .
أما الآن فلم يعد الهاجس البيداغوجي هو الأصل في التدريس بل بدا يحضر الهاجس الابستمولوجي العلمي , حيث الهدف الحقيقي هو استغلال الوثيقة بهدف تحسيس المتعلم بالمنهج التاريخي , والتأكيد على أن هناك قراءات متعددة للتاريخ وليس قراءة واحدة , وإعطاء التلاميذ فكرة عن اختلاف مناهج دراسة التاريخ , ولهذه الغاية وجب اقتراح وثائق متنوعة إزاء الحدث الواحد أو الواقعة الواحدة ,(بمعالجات ورؤى واضحة) ..
ولهذا وجدنا فرنسا وكثيرا من الدول الأخرى سباقة إلى إرفاق البرنامج الدراسي بمجموعة كتب مدرسية ، وليس كتابا واحدا بهدف إكساب التلميذ مفهوم النسبية بدل الحقيقة التي يكرسها نموذج التدريس بالكتاب الواحد , وليكون واضحا في ذهن التلاميذ أن أحكام المؤرخ هي من باب الممكن وليس من باب المطلق.
ربما من خلال مثل هذا التعامل مع الوثائق والأدوات التاريخية قد يصبح المتعلم مكتسبا ولو نسبيا قواعد بناء الخطاب التاريخي ولو بشكل مبسط.
إن الهاجس الابستمولوجي يسعى إلى تقريب الهوة بين التاريخ الذي يكتب على المستوى الأكاديمي والتاريخ الذي يدرس في القسم , فإلي أي حد يساير التاريخ المدرسي البحث الأكاديمي.؟
ومن جهة أخرى نرى أن التوجيهات التربوية تتعامل مع الوثيقة على كونها ذات صبغة ملموسة (عكس الخطاب التاريخي الذي يغلب عليه التجريد ) وبالتالي فأحسن وسيلة وطريقة للتعامل معها هي الطريقة الاستقرائية , غير أننا نعلم اليوم أنه ليس هناك شيء ملموس , فالتاريخ يعني إعادة بناء الماضي انطلاقا من أدوات تعتمد على تدخل المؤرخ , فإن نلجأ إلى دراسة الوثيقة في تعلم التلميذ يعني في الواقع جعله في وضعية التجريد , فتحليل الوثيقة يتطلب كفايات ، منها معرفة الإطار الزماني والمكاني , ربط العلاقات , وضع الفرضيات , طرح الأسئلة,…..
فلماذا لا نتخلى عن شيء اسمه الملموس في درس التاريخ , ونقبل بأن التاريخ ودراسته تتطلب القدرة على الاستدلال ، وبالتالي القدرة على التجريد.
إن المنهج الاستقرائي اليوم لم يعد المؤرخ يعتمد عليه , لذلك فإن هذا الأسلوب الوحيد المستعمل في القسم سيؤدي إلى جعل المتعلم يجهل الصيرورة البطيئة والمعقدة ، والتي يبني المؤرخ خطابه التاريخي من خلالها , والتي تقوم أساسا على المنهج الفرضي الاستنباطي .
شيء آخر يجب الإشارة إليه وهو أن الطريقة المتبعة مع الوثائق من الباحث تختلف عن الطريقة المتبعة في المدرسة ، فالباحث ينتقي بنفسه مجموعة وثائقه المتميزة بالكثرة والتنوع والشمولية ، في حين أن الوثائق التي يقدمها الأستاذ محدودة , كما أن الباحث هو الذي يختار وثائقه , في حين التلميذ تختار له , كما أن الباحث المؤرخ لا يعرف حتما النتائج التي سيتوصل إليها ، فهو عادة ينطلق من فرضيات متعددة ومن إشكاليات , في حين أن المدرس يعرف مسبقا النتائج التي يرغب في إيصالها إلى التلاميذ ، فهي معرفة موجهة.
هذه بعض المفارقات على المستوى النظري بين الطريقة التي تستغل بها الوثائق عموما والنصوص خصوصا بين المستوى الأكاديمي والمستوى المدرسي , فنقول كنتيجة أن الطريقة التي تستغل بها الوثيقة في المدرسة أقرب إلى المنهجية الوضعانية منها إلى المدارس التاريخية الحديثة , حيث يقوم التلاميذ باستخراج المعلومات من النصوص والتعامل مع النص باعتباره يعطي حقائق تاريخية مطلقة , واستخراج الحقيقة من النص , كما سبق وذكرنا.
وهذا يجعل التلميذ يعتقد خطئا أنه يتعرف على الواقع التاريخي وعلى الأحداث كما وقعت بالفعل , وهذا هو التمثل الخاطئ الذي يسقط في فخه التلميذ ، فتصبح الوثيقة عبارة عن نص مقدس , يتعامل معها بشكل ملموس ، في حين أن المصادر في حقيقة الأمر ماهي إلا عملية بناء للأحداث قام بها المؤرخ.
هذا التمثل يترتب عنه اعتقاد التلميذ أن التاريخ علم مطلق مثله مثل علوم الفيزياء والطبيعيات والرياضيات , يخضع لقوانين ثابتة مما يضعنا أمام مشكل جديد على المستوى الأكاديمي , وهو هل التاريخ علم أم لا ؟ في هذه القضية نقول باختصار شديد : إنه يصعب الاتفاق حول مفهوم دقيق وموحد للعلم , لكننا سنستند هنا إلى مرجعية العلوم الطبيعية أو الفيزيائية ، وعلى هذا المعيار واستنادا إليه ، فمعظم المؤرخين المعاصرين ، ومنهم كارل بوبر ينفي صفة العلم تماما على التاريخ بالقياس إلى المعيار الفيزيائي ..
أما طريقة تناول التاريخ فلا شك أن تعبير هنري مارو كاف عندما قال : إن التاريخ هو تلك المعرفة العلمية بشؤون الماضي , وأضاف أن صفة العلم يجب فهمها بمعنى المنهج وليس الموضوع , أما إذا أردنا فهم هذه القضية أكثر فنعود إلى الوراء قليلا , لنرى أن الجدل حول مسالة علمية التاريخ ظلت قائمة لمدة طويلة , فهناك من اعتقد أنه بالإمكان نقل مناهج العلوم التجريبية إلى التاريخ الذي يخضع بدوره لقوانين يمكن الكشف عنها ، وهذه القوانين هي التي تتحكم في سير التاريخ وتوجهه بنحو من الضرورة الحتمية , والمقصود هنا بالقوانين : ربط الأسباب بمسبباتها والمقدمات بنتائجها ، كما هو الحال في ظواهر الطبيعة والفلك والكيمياء ، بل هناك من تمادى أكثر وأعلن عن إمكانية التنبؤ بالمستقبل .
وهناك من المؤرخين من يرى أن التاريخ ليس علما ؛ لأنه يقوم على الفهم ومعرفة الآخر وعلى تأويل النوايا البشرية , باعتبار أن الحقيقة التاريخية ليست معطى يمكن الكشف عنها وعرضها ، بل المؤرخ يقوم بمساءلة تلك الحقيقة ، وإعادة تنظيمها فهو يقوم بالاختيار .
خلاصة القول : إنه إذا كانت المدرسة الوضعانية تجعل من التاريخ علما مطلقا شأنه شأن العلوم الأخرى يخضع لقوانين يمكن قياسها وتحديدها ، فإنه بالمقابل هناك من يشكك في هذا الطرح , لكن الشيء المتفق عليه هو أن التاريخ أصبح يدرس منذ القرن التاسع عشر بتطبيق المنهجية العلمية , فتطورت بذلك الأبحاث التاريخية ، وتنوعت بشكل سريع في عصرنا الحالي , وظهرت العديد من النظريات في فلسفة التاريخ , وهذا التعدد يعني أن التفسير للحوادث لا يعدو أن يكون اجتهادا بشريا يحتمل الصواب والخطأ , وهذا يعني أن التاريخ فن لا يمكن إدراكه إلا من خلال إمكانات المؤرخ.
ومن هنا يمكننا أن نفهم الانتقادات التي وجهها ابن خلدون لكثير من المؤرخين الذين سبقوه ، حيث أدرك أخطاء كثيرة في تفسيرهم للأحداث ؛ إما بسبب التحيز ، أو الجهل بطبيعة البشر ، أو بطبيعة المجتمع ، أو كما سماه ابن خلدون نفسه الجهل بطبائع العمران ، والتي ضمنها كتابه المقدمة التي أكسبته الشهرة الواسعة ، وخلدت اسمه بين علماء العالم.
فابن خلدون لم يهتم بتسجيل أحداث الماضي فقط وإنما كان يسأل عن أسباب وكيفية حدوثها , لذلك فإن المنهج الخلدوني تميز بالعلمية مقارنة بكتابة التاريخ قبله ، والتي كانت نوعا من الأدب والمسامرة وسرد الحوادث وحشد الروايات وتوثيق السند ، دون القيام بنقد الإخبار ، وهو ما نجده عند الطبري حيث قال : “إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا” *..
إذ إن التفسير بوصفه عملية فكرية يساهم في إبراز الجوانب العلمية المميزة للتاريخ ، أما الطريقة التي نستعملها في القسم عادة فتعتمد على سرد الأحداث بشكل ميكانيكي دون التحليل السببي أو التفسير , فنسقط في التحليل الغائي وانتقاء المعلومات ، حيث مجموعة من الدروس مصممة على الشكل التالي /الأسباب , المظاهر , المراحل , النتائج , أو غالبا ما نعتمد على السرد باعتباره شكلا من أشكال السرد , فعند سرد حدث ما فإن ذلك عند التلميذ متمضمن في نفس الوقت أسباب حدوثه ، وهذا يعني أن التاريخ السردي الخطي الكرونولوجي هو بالضرورة تاريخ تفسيري .
لا يمكن القيام بعملية التفسير إلا من خلال توظيف المفاهيم المهيكلة للخطاب التاريخي المعاصر ، وهي المفهمة والإشكالية , وتدريس التاريخ عن طريق الوقوف على المفاهيم ، وطرح الإشكاليات هو السبيل الوحيد لتحقيق الهدف الكبير الذي هو استيعاب التلاميذ نسبية أحداث التاريخ ، وتمكنهم من معرفة الخطاب التاريخي ومميزاته .
فهل يتم في القسم تدريس التاريخ عبر المفهمة و الإشكالية ؟
هذا هو السؤال الذي سنحاول الإجابة عنه .
إننا عند بناء درس التاريخ نتناول مسألة المفاهيم , بل لدينا خانة خاصة بالمفاهيم ، نتناول فيها مثلا مفهوم الزمن التاريخي , التطور التاريخي , الحضارة , الدولة , الأمة ,الثقافة , المخزن…….
لكن التوجيهات التربوية لا توضح المقاربة الديداكتيكية الواجب اتخاذها لتناول هذه المفاهيم ضمن مقررات لم تبن أصلا على أساس مفاهيمي , وهذا ما يجعل الأساتذة يتناولون المفاهيم كمصطلحات , وإذا قارنا هذا مع فرنسا مثلا نجد التوجيهات التربوية الفرنسية الخاصة بمادة التاريخ تولي اهتماما كبيرا بالمفاهيم ، حيث تستعمل لذلك شبكة للقراءة والتحليل يعمل التلميذ على إغنائها خلال مرحلة دراسته من الإعدادي وحتى الثانوي ، يتم بناء على هذه الشبكات المفاهيمية , مما يجعل المتعلم يقوم بعمليات مثل المقارنة والتأويل والتركيب والاستنتاج ، وبالتالي اكتساب تصورات ذهنية سليمة , كما أن المفهمة تساعد على تنظيم المعلومات المشتتة التي اكتسبها التلميذ خلال فترات الدراسة حول مفهوم معين (الحضارة , طبيعة نظام الحكم ,الثقافة , الأمة….)
وهذه الطريقة تختلف عن الطريقة المتبعة لدينا حيث يتم تدريس المفهوم الواحد خلال حصة واحدة , فكيف يمكن للتلميذ أن يكتسب مفهوما معينا كالحضارة أو النظام السياسي أو الديمقراطية أو مفهوم الثقافة خلال حصة واحدة .
لذلك وجب التركيز على المفاهيم برؤية جديدة ؛لان المفاهيم تتعرض للتطور والتبديل , حيث إن هناك مفاهيم لها بداية ونهاية , فلكل مفهوم تاريخ معين ، مثل مفهوم المخزن مثلا , كما أن المفهوم قد يكون جغرافيا أكثر منه تاريخيا , ويؤكد مارو على أهمية المفهمة في التاريخ حيث يقول : ” إنه لا يوجد تاريخ بدون مفهمة , كما يرى بول فبين أن التاريخ لا يختلف عن الرواية أو القصة التاريخية إلا من خلال المفهمة .
أما الخطاب الآخر المهيكل لبناء الخطاب التاريخي هو الإشكالية, وهذا هو المحور الأخير في هذا العرض.
استعمل مصطلح الإشكالية في البداية للتعبير عن الأشياء المشكوك فيها , ثم استعمل للدلالة على المشاكل التي يثيرها موضوع ما , والتاريخ من أهم المواضيع التي تطرح إشكالات عديدة .
بالنسبة للتدريس في الأقسام بأسلوب الإشكالية أمر غريب , فحتى التوجيهات لم تشر إلى الإشكالية بشكل صريح , إذ نجدها ضمنيا في الإشارة إلى استعمال مقدمة الدرس كتحفيز وتحدي لأذهان التلاميذ .
أما توجيهات الثانوي فاستعملت الكلمة عند الحديث عن مواصفات أسئلة التمهيدي ، حيث ترى أن التمهيد يجب أن يثير اهتمام التلاميذ وفضولهم وتحسسيهم بأهمية الموضوع واشكاليته الأساسية .
إذا كانت التوجيهات التربوية تشير إلى إكساب التلاميذ الفكر التاريخي ولو بشكل نسبي , فإن من اللازم إكساب المتعلم القدرة على بناء الإشكالية أو بعبارة أخرى إضفاء الطابع الإشكالي على درس التاريخ , بمعنى التفكير بالأسئلة التي يطرحها المؤرخون ، وكذلك الأسئلة التي تعبر عن إشكالات الحاضر ؛ لأن التاريخ في حد ذاته مادة إشكالية تطرح الأسئلة أكثر مما تتطلب الأجوبة , فالأحداث والوقائع لم تعد معطى تقدمه الوثائق ، بل انتقاء هذه الوثائق أصبح يتم عبر الإشكالية وعلى ضوئها مؤرخو الحوليات أو المدرسة الجديدة كانت أول من دعا إلى التخلي عن التاريخ الخطي الكرونولوجي لصالح التاريخ الإشكالي .
إن توظيف الإشكالية في درس التاريخ بالمدرسة مسالة غائية تماما ، فحتى الأسئلة التي يطرحها الأستاذ في بداية الدرس في التمهيد أو المقدمة غالبا ما يتناسها , كما أن هذه الأسئلة تكون جامدة وغير محفزة للذاكرة , كما أن الأسئلة المطروحة أين ؟ ومتى؟ وكيف؟ وهل ؟ لا تمثل في الحقيقة إشكالية , إذ إن هذه الأخيرة يجب أن تنبثق من الموضوع نفسه , كما أننا عندما نصيغ تلك الأسئلة لا نضع التلميذ في وضعية الباحث عن أجوبة تلك الأسئلة .
إن تدريس التاريخ من دون إشكالية يحول دون تحقيق الأهداف السامية لمادة التاريخ ، ويحول دون إكساب التلميذ المتعلم مفهوم النسبية , ويعرقل امتلاكه للفكر النقدي , والحقيقة عندنا أن الكتب المدرسية المتوفرة والطريقة التي تعالج بها المقررات مواضيع التاريخ لا تساعد على العمل في ضوء الإشكالية , هذا مع العلم أن تدريس التاريخ في الجامعات المغربية يتم بدون إشكالية , وعلى هذا فنحن مجبرون على طرح سؤال مناقض فحواه ‘ألا نغالط أنفسنا حين نعتقد أنه بإمكان التلميذ في الإعدادي أو حتى الثانوي طرح أسئلة وإشكالات تاريخية ملائمة.
ـــــــــــــــ
* لم يتجاهل الطبري كما يظن موضوع نقد الروايات ، وإنما تناولها بطريقة تدل على سعة أفق السابقين ، حيث كان يختار الأقوال التي يراها صحيحة أولا ثم يتبعها بالأقوال الأخرى حسب درجة صحتها ، وكان إيرادها له من باب الأمانة في النقل ، وكان يرى أن من حق القارئ أن يطلع على الآراء السائدة على تباينها ..
المصدر : موقع التاريخ
http://www.altareekh.com/new/doc/modules.php?name=Content&pa=showpage&pid=1486&comm=0link
إرسال تعليق