1


تعريب مروان أبي سمرا ـ عاهد ازحيمي، نقلا عن أنفاس نت

تقـديم:
يعتبر كتاب المتوسط والعالم المتوسطي على عهد فيليب الثاني، لصاحبه فيرناند بروديل مرجعا أساسيا لتاريخ البحر الأبيض المتوسط، بل ومرجعا في علم التاريخ في مجمله، حيث تطرق من خلاله للحضارات التي تعاقبت على البحر الأبيض المتوسط منذ قدم الأزمان وحتى اليوم، فدرس في بداية الأمر الجبال والسهوب المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط من كل الجهات. كما درس الجزر، والصحاري، والحياة البدوية ، والبرازخ، ومضائق البحار، والملاحة البحرية، والطرق البرية التي كانت متوافرة آنذاك. وبالطبع درس المناخ السائد في حوض البحر الأبيض المتوسط ودورة الفصول. وبعدئذ انتقل لدراسة الأمور ضمن منظور المدة المتوسطة للتاريخ والتي تقع فوق المدة الطويلة السابقة. ويقصد بذلك دراسة التاريخ الاجتماعي للشعوب والأمم : أي دراسة الاقتصاد والديموغرافيا والعملة المالية والمعادن والأسعار وتجارة القمح ووسائل النقل السائدة في تلك الأزمان برا وبحرا. كما درس الفئات الاجتماعية المختلفة من بورجوازيين، أي سكان مدن، وقطاع طرق وعصابات، ويهود ومسلمين ومسيحيين، وكذلك درس الرأسمالية والحروب. ثم انتقل بروديل إلى دراسة الطبقة الأخيرة والثالثة من تاريخ شعوب البحر الأبيض المتوسط. وهي التي تخص دراسة المعارك العسكرية والسياسات التي اتبعتها هذه السلالة المالكة أو تلك والحروب التي جرت بين الأوروبيين المسيحيين والأتراك المسلمين. إذن فمن هو فيرناند بروديل؟ وما هو منهجه في كتابة التاريخ؟ وما هو مضمون كتابه المتوسط والعالم المتوسطي؟

I.    قراءة في الإطار الخارجي لكتاب المتوسط والعالم المتوسطي.
1.    التعريف بصاحب الكتاب.
ولد فيرناند بروديل سنة 1902 بقرية صغيرة تقع شرقي فرنسا. وأخذ تعليمه بمدينة باريس، لكن بعدما أنهى دراسته، ذهب إلى الجزائر أستاذا للتاريخ في إحدى المدارس الثانوية. وهناك اكتشف البحر الأبيض المتوسط لأول مرة وأعجب بجماله وهدوئه. ثم عاد بعدئذ إلى باريس كي يدرس في ثانوية لويس باستور. وفي عام 1935 سافر إلى البرازيل أستاذاً في جامعة سان باولو. وبعد أن أمضى هناك ثلاث سنوات عاد إلى باريس من جديد لكي يدرس في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية انخرط فيها ولكنه وقع في الأسر على خطّ ماجينو الشهير عام 1940. وظل مسجوناً في ألمانيا لمدّة خمس سنوات، أي طيلة فترة الحرب. وهناك كتب أطروحته الضخمة عن البحر الأبيض المتوسط في عهد فيليب الثاني ملك إسبانيا خلال القرن السادس عشر.
وبعد خروجه من السجن ناقش أطروحته في السوربون عام 1947. وفي عام 1949 انتخب أستاذا في الكوليج دو فرانس، وهي أعلى مؤسسة علمية فرنسية. وفي عام 1984 انتخب بروديل عضواً في الأكاديمية الفرنسية وتمّ تكريمه كشخصية تاريخية. ولكنه مات بعد هذا التكريم بعام واحد (1985). وهكذا يكون قد عاش ثلاثة وثمانين عاماً من أوائل القرن الماضي وتقريباً حتى نهايته. وهو عمر مديد أتاح له أن يخرِّج أجيالاً متتالية من المؤرّخين، وأن يؤلّف العديد من الكتب التي أصبحت مراجع كبرى لا غنى عنها لفهم عصرنا وكيفية تشكل الحداثة والرأسمالية والحضارة المادية التي سيطرت على العالم ولا تزال.
2.    كتابة التاريخ عند فيرناند بروديل.
لقد شكلت كتابات فيرناند بروديل في القرن العشرين محطة رئيسية في مسار علم التاريخ الغربي بوجه عام، والفرنسي بوجه خاص. وتوافق هذه الكتابات ظرفية ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي تميزت بغلبة التحليل البنيوي. ويظهر جهد فيرناند بروديل في تناول التاريخ انطلاقا من تعدد الأزمنة أو الآماد، كشبكة من المفاهيم لإدراك التاريخ، من البنيات أو الزمن الطويل، إلى الأحداث، مرورا بالزمن الدوري، مع التركيز على الأمد الطويل، كما يتبين من خلال الكتاب المرجعي البحر المتوسط والعالم المتوسطي على عهد فيليب الثاني.
 فالزمن الأول طويل جداً، ويبدو وكأنه جامد لا يتحرك، أو قل إنه يتحرّك ببطء شديد. ففصل الشتاء مثلاً هو ذاته في جميع البلدان المتوسطية، وهو شتاء معتدل عموماً على عكس الشتاء القارس في بلدان شمال أوروبا الباردة. ولم يتغير فصل الشتاء في حوض المتوسط منذ آلاف السنين وحتى اليوم. ونفس الشيء بالنسبة للمزروعات والأشجار في البلدان المحيطة بالمتوسط. أمّا الزمن المتوسط للتاريخ فيخص الأشياء التي تدوم خمسين سنة أو مائة سنة أو حتى مائتي سنة وربما أكثر. كما هو الشأن بالنسبة لبعض السلالات المالكة أو بعض الأنظمة السياسية. في حين يخص الزمن القصير الأحداث الجارية كل يوم.
ومن أهم الكتب التي ألفها بروديل نجد أطروحته البحر المتوسط والعالم المتوسطي على عهد فيليب الثاني، أما الكتاب الثاني الذي ألَّفه بروديل فيعتبر بمثابة تاريخ جديد للرأسمالية، وينقسم إلى ثلاثة أجزاء. والعنوان العام للكتاب هو: الحضارة المادية. الاقتصاد والرأسمالية بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر. أمّا الكتاب الثالث والأخير فهو تاريـخ فرنسـا ويقع في ثـلاثة أجزاء. وقد خـتم به حياته وصدر قـبيل مماته بقليل. هذا بالإضافة إلى بعض الكتب الأخرى التنظيرية والمنهجية عن عـلم التاريخ. كان أهمها: كتابات على التاريخ.

II.    قراءة في مضمون كتاب المتوسط والعالم المتوسطي.
1.    مقدمة المترجم:
يتعرض المترجم في بداية هذه المقدمة إلى أهمية الكتاب، إذ أشار إلى أن ما أحدثه هذا المؤَلَف يعتبر ثورة علمية جددت مناهج علم التاريخ وموضوعاته، الأمر الذي يفسر ترجمته إلى العديد من اللغات، التي تعدت العشرة، وتحدث كذلك عن الجهد الذي بذله فيرناند بروديل في انجاز هذا الكتاب، ثم استطرد في الحديث عن المنهجية التي اتبعها بروديل في كتابه والتي تعتمد على إخراج البحث التاريخي من القوقعة السياسية، واستبعاده السرد التعاقبي للأحداث التاريخية، وتناول مجمل وقائع الإجتماع البشري من جغرافية واقتصادية واجتماعية وسياسية وحضارية، حيث لا يمكن الفصل بين التايخ الإجتماعي والتاريخ السياسي والتاريخ الاقتصادي والتاريخ الثقافي-الحضاري. كما ذكر مروان أبي سلمى في هذه المقدمة بأن التاريخ الشامل الذي وضعه بروديل للعالم المتوسطي ليس جامعا لتوارخ البلاد والأقليم المتوسطية المحلية من أوروبا وشمال إفريقيا فالشرق الأوسط، بل هو تاريخ تفاعل هذه البلاد والأقاليم وتدخل مستويات اجتماعها البشري وتكاملها، ثم انتقل للحديث عن الأقسام الثلاثة للكتاب.
2.    مقدمة المؤلف:
حاول فيرناند بروديل من خلالها ابراز أهمية كتابه المتوسط والعالم المتوسطي في التعريف بالبحر الأبيض المتوسط الذي هو على حد تعبيره مجموعة مركبة من البحار التي تعترضها الجزر وتقاطعها أشاه الجزر، وذكر بأنه من المستحيل فصل تاريخ البحر عن تاريخ اليابسة التي تحيط به. كما تعرض في هذه المقدمة كذلك إلى للصعوبات التي واجهته في انجاز هذا الكتاب، حيث يبين بأنه رغم تعدد الكتب والمقلات عن المتوسط فإنها تبقى كمطر من رماد، نظرا لإهتمامها بنقط صغيرة من المتوسط، واهتمام أغلبها بمواقف الأمراء والأغنياء، وتحدث عن العوامل التي دفعته للخروخ عن التاريخ الإقتصادي، ثم انتقل للحديث عن التقسيم الدي أعطاه لكتابه، والمنهجية التي اتبعها في انجازه.
3.    القسم الأول من الكتاب.
يعالج فيرناند بروديل في هذا القسم من كتابه، المعطيات الجغرافية والبشرية ليس فقط في النصف الثاني من القرن السادس عشر، بل من صور ومشاهد وحقائق تعود إلى عصور سابقة ولاحقة، كما يشير في هذا القسم بأن المتوسط يتألف من سلسلة من أشباه الجزر المتماسكة ومن بحر يمتد على مساحة مائية شاسعة، وينقسم هذا القسم إلى خمسة فصول، يحمل الفصل الأول عنوان الجبال والهضاب والسهول، الذي ينقسم بدوره إلى أربعة محاور، أولها يأخذ عنوان الجبال مصنع الرجال، تعرض فيه إلى جغرافية المتوسط التي يغلب عليها الطابع الجبلي، وأثر هذه الجبال على السكن الذي يكون في الغالب موزعا ومشتتا ليصبحون منغلقين على أنفسهم وينتجون معظم ما يحتجون إليه، وأشار كذلك إلى أن عالم الجبال عادة ما يظل مقيما على هامش الحضارات التي هي صنيعة المناطق المنخفضة، لكن بالرغم من هذا انغلاق هذه الجبال فإنه عن طريق اتصالها بالمدن والسهول بواسطة المعابر والطرق جعلها تصبح أقل انغلاقا، كما أن كثافة سكان الجبال من جهة، وشح الموارد من جهة ثانية تدفع بالكثير من الجبليين إلى مغادرة مواطنهم، والالتحاق بالمدن التي كانت في حاجة ماسة لهؤلاء المهاجرين رغم تخوفها من سلوكياتهم، كما كانت هجرات الجبليين تغذي جيوش الممالك والإمارات بالجنود، وهنا يخلص إلى أن الجبال مصنع الرجال في خدمة الآخرين، أما المحور الثاني من هذا الفصل فهو بعنوان الهضاب قلب شبكة المواصلات، حيث تعرض فيه إلى أن الهضاب المتوسطية سهول مرتفعة، وناذرا ما تعبرها الأنهار، في حين تخترقها الطرق بسهولة، كما أن الهضاب تشكل مناطق السكن المتوسطي الهامة لكونها غير معرضة لأوخام المستنقعات وصالحة للزراعة والري من مياه الجبال كما أنها تمتاز بكثافتها ولا تعرف هجرات سكنية كثيفة. والمحور الثالث من هذا الفصل أخذ عنوان السهول رحم الملاريا وأميركا المتوسط الداخلية، والذي تطرق فيه إلى أن سهول المتوسط لزمت جهود متواصلة لاستصلاحها، لكونها كانت بمجرد هطول الأمطار تنهار الجدران التي أقامها البشر، ففي القرن السادس عشر كانت أغلب السهول غير صالحة للزراعة، والسهول المستصلحة منها غالبا ما كانت تجتاحها الفيضانات، فكثرت بذلك المياه الراكدة التي كانت رحما خصبا للملاريا التي كانت تحصد أرواح العديد من الفلاحين، أو على الأقل تترك أثر الانحطاط في حيوية أجسادهم، وتطرق في هذا المحور كذلك إلى أن مواجهة هذا الوباء كان يتم عن طريق تجفيف المستنقعات وإعادة إصلاحها، وفي النهاية خلص بروديل إلى أن الاستصلاح غالبا ما يتم لصالح مدينة كبيرة تمتلك التجارة ورساميل كبيرة، الأمر الذي جعل السهول قوة كبيرة تابعة للخارج، تعيش وتنتج لأجله. والمحور الأخير من هذا الفصل، فهو يحمل عنوان الانتجاع والبداوة، تطرق فيه إلى أن المتوسط كان يشتهر حتى زمن متأخر بالانتجاع الذي هو تلك الحياة الرعوية المنظمة التي كانت تنتقل بين مراعي الشتاء في السهول والمناطق المنخفضة، ومراعي الصيف في المرتفعات، كما أشار بروديل إلى أن حركة الانتجاع هذه جاءت نتيجة لتطور مديد ولتقسيم مبكر للعمل، الشيء الذي أدى إلى ظهور فئة الرعيان التي كان ينظر إليها الفلاحون وسكان المدن بخوف واحتقار، فالانتجاع إذن شكل اجتماعي يلي البداوة، التي هي الشكل الأقدم للحياة الرعوية، وإذا كان الانتجاع خاصية شبه الجزيرة الأيبيرية خلال القرن السادس عشر فإن البلقان والأناضول وإفريقيا كانت مسرحا للبداوة.
أما الفصل الثاني فلقد أخذ عنوان البحار والسواحل والجزر، تطرق فيه بروديل إلى أربع محاور كذلك، كان أولها البحار مساحات اتصال وانفصال، تعرض فيه إلى أن البحر، قبل أن يصبح مساحة للنقل، كان عائقا في وجه الملاحة التي كانت لا تبحر بواخرها إلا  بمحاذاة السواحل، وفي هذا الصدد يقول بروديل '' حتى القرن السادس عشر كان البحر المتوسط ما يزال هائلا لا متناهي الأبعاد وفارغا كالصحراء لا يتنفس ولا تنشط الحركة فيه إلا على الشواطئ''، كما كانت الأساطيل الحربية تقوم بمعاركها على مسافات تتيح للعين رؤيتها من الشواطئ، ولم يكن عدد الطرق البحرية التي تبحر فيها السفن تتجاوز الأربعة، حيث كانت البحار الضيقة في القرن السادس عشر هي الأكثر أهمية، من البحرين الكبيرين الأيوني في المشرق والمساحة المائية الواقعة بين سردينيا وكورسيكا، حيث ظل هذين البحرين كصحراء حقيقية لا تعبرها السفن، إلا مسرعة ومن دون توقف، بينما كانت تنتعش على هوامشهما حياة المتوسط البحرية في البحر الأسود وبحر ايجة في الشرق وفي الأدرياتيك، والبحر الواقع بين صقلية وإفريقيا. أما المحور الثاني من هذا الفصل هو ضعف القطاعات البحرية، حيث تعرض فيه إلى أن مياه المتوسط أقل غنا من أرضه لعمقه وقدمه، فضلا عن فقره البيولوجي، وعدم تجدد مياهه لضيق مجاله من جهة، واتصاله بالمحيط من جهة ثانية، كما أشار بروديل إلى أن قلة الرجال القادرين على بناء السفن والإبحار بها كانت دائما من بين العقبات التي يواجهها المتوسط، بدليل أن أغلب وثائق القرن السادس عشر لا تخلوا من شكوى قلة الرجال والبحار في المتوسط، الأمر الذي دفع بالدول المتوسطية البحث عن هؤلاء من بلاد الشمال، ومما زاد الطين بلة هو استنفاذ كل الثروة الغابوية المتوسطية، خلال القرن السادس عشر، وما لهذه الثروة من أهمية في صناعة السفن، وهكذا كانت أزمت الخشب من بين الأسباب التي آلت إلى خسارة المتوسط المسيحي للبحر الذي أخذ العثمانيين يفرضون عليه قانونهم. أما المحور الثالث من هذا الفصل فهو الجزر محطات الجوع والخوف، تحدث من خلاله على أن الجزر لها أهمية كبيرة، لكونها تمثل محطات ضرورية للسفن وملجأ أمينا لها، كما أنها تشكل وسطا إنسانيا متماسكا، كما أشار بروديل في هذا المحور إلى أن المدن في الجزر تكون متشابهة لتأثرها بأساليب العيش المنتشرة في البحر، وأن حياتها الداخلية المنغلقة عديمة التجدد، وأن سكان الجزر يقيمون دائما على الخوف مما يخبئه لهم القدر، كما أن والوفرة في المواد التي تفد إلى الجزر ليست إلا وفرة أنية لابد من زوالها، الأمر الذي يهدد الجزر بالفقر والجوع والقحط، وهنا يقول بروديل ''الجزر كلها تعيش تحت رحمة المستعمرين الذين يستعملونها كمحطات لجيوشهم وتجارتهم وزراعتهم'' كما كانت هذه الجزر تعيش على صراع دائم يفرضه القراصنة أو الدول التي تتصارع عليها. وفي أخير هذا الفصل الذي ختمه بمحور تحت عنوان أشباه الجرز القارية قوة المتوسط الكبرى، تعرض فيه إلى أن حياة البحر المتوسط لا تأخذ الجزر والسواحل فحسب في شباكها، بل تخترق الأعماق القارية، أي أشباه الجزر القارية مثل شبه الجزيرة الأيبيرية، ايطاليا، المغرب، شمال إفريقيا، أسيا الصغرى، كما أشار بروديل إلى أن هذه العوالم المتوسطية غنية بعدد سكانها وإمكاناتها، وأن كل عالم من هذه العوالم له حدوده التي تجعله أسير حيزه الجغرافي، ولهذا فعندما تستطيع واحدة من أشباه هذه الجزر انجاز وحدتها السياسية، تصبح عدوانية حين تقوى، وتحتل حين تضعف، أما في الفترات الصامتة فيكون فيه كل عالم يحضر لانفجارات المستقبل، وفي هذا الصدد يقول بروديل '' أن احتلال البربر لاسبانيا في القرن الثامن كان قد سبقه نمو ديموغرافي هائل في المغرب''.
أما بخصوص الفصل الثالث من هذا القسم فلقد اتخذ عنوان تخوم المتوسط الأكبر، والذي تطرق فيه من خلال ثلاث محاور إلى أن المتوسط حيز متحرك لا تقتصر دائرته على حدوده الجغرافية، إذ يقول '' أن المتوسط الذي نعمل على تحديده، متوسط التاريخ والبشر''، ولهذا نجده يعطي للمحور الأول من هذا الفصل عنوان الصحراء: وجه أخر للمتوسط، إذ تعرض فيه إلى أن الصحراء تلامس المتوسط من جهة ثلاث : الصحراء الليبية من جهة الجنوب، والصحراء السورية خلف جبال لبنان، والصحراء الواقعة شمال البحر الأسود، وأشار إلى أن البدو المتنقلون في تلك القفار يصارع بعضهم البعض على الآبار والمراعي، كما تحدث في هذا المحور عن الحياة الداخلية لمجتمعات البدو الصحراوية التي تكشف عن تنظيم وتراتب وممارسات معقدة، وتحدث كذلك عن نمو وازدهار التجارة الصحراوية في القرنيين الخامس عشر والسادس عشر، وأشار لأهم هذه الطرق التي كانت تسلكها هذه التجارة، والمعرفتان بطريقي الذهب والتوابل، وذكر كذلك بأن الصحراء ليست مساحات نقل فقط، بل توجد بها مدن وأراضي خصبة، كما هو الشأن بالنسبة لمصر وبلاد مابين النهرين، وأن قلب هذه الواحات الخصبة هي مولد الحضارة الشرقية، وذكر أيضا بأن الصحراء بقوافلها وحركتها هي من صلب حضارة الإسلام، وركيزة تجانسه البشري، ثم استطرد في الحديث عن الإسلام والفتوحات التي قام بها وما كان يعتري هذا الجسم الإسلامي الضخم من نقاط ضعف، ثم انتقل للحديث عن انطلاق الإسلام التركي في القرن الخامس عشر. أما بخصوص المحور الثاني من هذا الفصل والذي يحمل عنوان أوروبا والمتوسط، فلقد تعرض فيه إلى تنوع وتعدد الحضارة الأوروبية، التي دخلتها على نحو متفاوت وفي تواريخ متباعدة، ومن طرق مختلفة. الأمر الذي يفسر عدم تجانس الحاضرة الأوربية في أصولها وفي مستوياها الثقافية والاقتصادية، وخلق أربع مجموعات أوربية مختلفة فيما بينها، وهي البرزخ الروسي، البرزخ البولوني، البرزخ الألمـاني، البرزخ الفرنسي. أما المحور الثالث من هذا الفصل فهو تحت عنوان الأطلسي والمتوسط، تطرق فيه بروديل إلى أن المحيط الأطلسي في القرن السادس عشر كان ما يزال مجموعة من البحار غير المتجانسة، وأن المتوسط تمكن من السطير عليه لمدة طويلة، ولم ينحط المتوسط إلى بعد فقدان سيطرته على المحيط، ثم استطرد في الحديث عن تراجع دور المتوسط لصلح الأطلسي في النصف الثاني من القرن السادس عشر.
وفي الفصل الرابع تطرق للوحدة الفيزيائية – المناخية والتاريخ، إذ يقول ''إن المتوسط كناية عن عوالم متشابهة تفصل بينها عوالم مسافات طويلة، لكن رغم ذلك فهي تتنفس كلها من الرئة نفسها وتتبادل الرجال والمنتجات… مما يحتم أن تكون هناك وحدة حية للبحر''، وفي المحور الأول من هذا الفصل تعرض لوحدة المناخ حيث أشار فيه إلى أن الوحدة المناخية للمتوسط تتنفس من رئتين مختلفتين رئة الصحراوي في الجنوب ورئة الأطلس في الغرب، إذ تهب الرياح الحارة في كل صيف من الجنوب فتجتاح البحر وتصل طلائعها حتى الساحل المتوسط الشمالي، بينما يهب الأطلسي في فصل الشتاء برياحه الباردة التي تجتاح المتوسط من الغرب إلى الشرق، فينجم عن هذه الوحدة المناخية تشابه في الإنتاج الزراعي لبلدان المتوسط، الأمر الذي يفسر تزاحم هذه البلدان في تصريف الإنتاج، كما ذكر بأن قسوة المناخ المتوسطي تتمثل في فصليه الطويلين، وما لذلك من أثر على الحياة الزراعية، هذا إضافة إلى أن تربة المتوسط كانت تحتاج لجهد دائم لكي لا تتعرض للأمراض، كما تهدد الصحراء التربة فتضيق المساحات الصالحة للزراعة، وتطرق في المحور الثاني من هذا الفصل إلى الفصول، التي يرى بأنها تختصر في المتوسط إلى اثنين: شتاء، وصيف، وتحدث عن خصوصيات كل فصل، وفي هذا الصدد يقول '' وفصل الشتاء فصل للثرثرة والأحلام والشائعات والأخبار الكاذبة فضلا عن أنه فصل المشاريع والخطط في أروقة دواوين الحكومات، حول المواقد حيث تسود صفحات لا تحصى بالأفكار الكبيرة الغائمة لأن لاشيء يبدو مستحيلا في تلك الجلسات المؤنسة، وحين يحل الصيف لا يأتي بجديد ففيه لا تصير المشاريع والخطط أكثر عقلانية، بل هي تصطدم بالواقع فتصير أكثر واقعية بتخلي راسميها عن أوهامهم الشتوية ''. أما المحور الثالث من هذا الفصل فلقد تطرق فيه إلى المناخ والحقبات الطويلة، حيث ذكر بأن المناخ يتغير من حقبة إلى أخرى، وأن هناك حقبة رطبة وأخرى جافة وثالثة حارة ورابعة باردة، وأكد على وجود دلائل تشير إلى هذه الحقبات من الانقلابات المناخية لا تصيب مناطق بعينها، بل إن المناخ العام للمتوسطي سجل انقلابات مشابهة.
وفي الفصل الخامس والأخير من هذا القسم، الذي أخذ عنوان الوحدة البشرية: المدن وشبكة المواصلات، تطرق بروديل في المحور الأول منه إلى طرق البر والبحر، وأن وحدة المتوسط قوامها شبكة من الطرقات والمدن، فخلال القرن السادس عشر لم يعرف العالم كله شبكة مدينية بالقوة التي كانت عليها المدن المتوسطية، وتتجلى حيوية هذه المدن، في اتصالها بخطوط مواصلات ناشطة، كما أشار كذلك إلى عدم قيام ثورة في مجال النقل البري والبحري خلال القرن السادس عشر، رغم نشاط التجارة، مفسرا ذلك بدور المدن الصغرى التي كانت تقوم بدور الوسيط بين المدن الكبرى، وتحدث كذلك عن أهمية الطرق البرية التي لم تشهد هزيمة ساحقة وسريعة في صراعها الطويل مع الطرق البحرية، ثم انتقل للحديث عن حمولة السفن في كل من المتوسط والمحيط، مشيرا إلى أن السفن ذات حمولة الخفيفة كانت تلعب دورا يفوق دور السفن الكبيرة، أما المحور الثاني من هذا الفصل  فلقد تطرق فيه لوظائف المدن التي كانت تعيش من قدراتها على جلب الطرق في اتجاهها، إذ يقول ''إن المدن لا تعيش من دون أسواق وطرق، والمدينة والسوق لا قيمة لها إلا بالحركات والأنشطة المتعددة... وأن المدن ليست إلا وليدة حركات وأنشطة تستقبلها المدن وتضبطها وتدخلها في دورة حياتها، قبل أن تعيد دفعها من جديد إلى خارجها... والمدن تنحط أو تموت حين تعاق أو تخنق شبكة مواصلاتها'' ولهذا فأهم المدن في المتوسط هي المدن الساحلية، ويختلف الأمر في جنوب المتوسط وشرقه، حيث تكون كبريات المدن هي المدن الداخلية، لاتصالها بشبكة الطرق الصحراوية، كما أشار إلى أن الصناعة المتوسطية في القرن السادس عشر نمت في ظل الحياة التجارية، لأن الوظائف التجارية والصناعية تتعاقب وتتآزر، ثم انتقل للحديث عن المصرف وتجارة المال، وأشار إلى أن هذا الطور لا يولد على نحو مستقل عن المجالات الاقتصادية الأخرى، أي التجارة والصناعة. وفي المحور الأخير من هذا الفصل تطرق لأصناف المدن في المتوسط خلال القرن السادس عشر، والتي قسها إلى ستة أصناف: بيروقراطية، تجارية، صناعية، حرفية، زراعية، وعسكرية، واعتبر النمو الديمغرافي شرطا أساسيا في تمركز النشاطات المدينية ومجالاتها، وفي نفس الوقت يشكل ضعف وهشاشة المدن، كما أشار إلى أن القرن السادس عشر اتسم بتفشي المجاعات والأوبئة، التي لم تنجى منها مدينة متوسطية واحدة، الأمر الذي دفع بها إلى اتخاذ مجموعة من التدابير الوقائية. ثم انتقل للحديث عن الهجرة التي اعتبرها تلعب دورا هاما في الملامح العامة للمدينة، حيث أشار إلى أن الهجرة إلى المدن لم تكن دائما هجرة فقراء، بل هناك من كان المهاجرين، يحمل معه إلى المدن تقنيات جديدة، مستدلا باليهود الذين طوردوا من اسبانيا بسبب دينهم وليس بسبب بؤسهم، الذين نقلوا إلى المدن التي حلوا بها مجموعة من الفنون والصناعات. وتحدث كذلك عن الهجرة المعاكسة التي كان يقوم بها الأغنياء، وتحدث في هذا المحور كذلك عن ما وجهته المدن من أزمات مع حلول القرن الخامس عشر نتيجة التحولات والصراعات السياسية الكبرى، وظهور الدولة الإقليمية، وسقوط العديد من المدن بيدها، إذ يقول '' إنها حقبة الهزائم التي جعلت تعصف بالدولة-المدينة لتنتصر عليها الدولة الإقليمية الكبرى''.
4.    القسم الثاني من الكتاب.
أما بخصوص القسم الثاني من هذا الكتاب فهو يحمل عنوان أقادر جماعية وحياة شاملة، تطرق فيه بروديل للتاريخ الاجتماعي للمتوسط، وذلك من خلال سبعة فصول، وأول هذه الفصول هو الاقتصادات: قياس القرن، حاول من خلاله التعرف على الطاقات والإمكانيات التي كان يمتلكها الإنسان المتوسطي خلال القرن السادس عشر، ولهذا نجده يعطي للمحور الأول من هذا الفصل عنوان المكان عدو وحاجز، والذي تطرق فيه لشاسعة المتوسط الأكبر ومسافته الهائلة، واعتبره مجال فائدة واتصال ومجال حواجز ومعوقات، فإنسان القرن السادس عشر لم يكن في وسعه السيطرة على هذا المجال إلى بصعوبة بالغة، ولم يكن الانتقال في البحر أحسن حالا من الانتقال في البر، حيث كان الانتقال من جبل طارق إلى اسطنبول يستغرق شهرين على الأقل، هذا إضافة إلى عدم الانتظام واستحالة تحديد معدل السرعة، وإذا كان البحر المتوسط يبدو اليوم حيزا مائيا ضيقا، فلقد كان يبدو لإنسان الأمس حدا وحاجزا لا مدى لاتساعه، كما أشار إلى تأثير هذه العوامل في حياة الإمبراطوريات وتدبير شؤونها، حيث يقول ''فالإمبراطورية الاسبانية...وسياسة إمبراطورها فليب الثاني كانت تستلزم وسائل اتصال يومي تتيح تبليغ أوامر وأخبار معينة، وتستلزم وسائل لنقل المعادن الثمينة والصكوك المالية... هكذا استهلكت هذه الإمبراطورية قواها في الصراع ضد المكان-المسافة...إنه صراع ضد البطء''، كما أشار كذلك إلى مسألة المخاطرة بالحياة والأموال التي كانت دائما تقف هاجسا في وجه التجار، ثم انتقل للحديث عن دور المراكز التجارية للمدن التي اعتبرها المحركات الأقوى في دفع الحياة الاقتصادية، وكذا دور الأسواق في تنشيط الحركة الاقتصادية وطرق المواصلات، وانتشارها في أنحاء كل أوروبا، كما كان يقصدها التجار الكبار والصغار، وأشار كذلك إلى أن المتوسط كان مزدهرا بمناطقه الاقتصادية، الضيقة المغلقة، التي تميزت بتنظيم أنشطتها وفق تقاليدها الخاصة، إلى درجة ظلت بعض هذه المناطق تجهل النقد وتعيش اقتصادا اكتفائيا حتى القرن السادس عشر، وهكذا كان الحياة الاقتصادية في المتوسط تعيش اختلاطا وتداخلا بين اقتصاد حيوي ومتقدم وبين اقتصاد آخر أقل حيوية وتقدما، ولهذا نجد بروديل يصف اقتصاد المتوسط بأنه اقتصادا-عالما. أما المحور الثاني من هذا الفصل فلقد تطرق فيه لعدد السكان في المتوسط، الذي وصل في القرن السادس العشر إلى 60 مليون نسمة، 38 منهم في البلدان الأوروبية، و22 مليون نسمة بالنسبة للبلدان العربية، وتحدث كذلك عن الكثافة السكانية التي كانت تصل إلى 17 نسمة في الكيلومتر مربع، في حين ينخفض هذا الرقم في المناطق الصحراوية، فالمتوسط شهد خلال القرن السادس عشر ثورة بيولوجية هائلة ضاعفت عدد سكان المتوسط، فكان لذلك عوامل ايجابية وسلبية في نفس الوقت، فالفتح العثماني، واكتشاف أمريكة واستعمارها، ما كانت لتحصل كلها بمعزل عن التكاثر السكاني، وفي نفس الوقت كان التزايد السكاني عبأ ثقيلا على الحياة الاقتصادية، حيث بدأت تظهر أعمال اللصوصية، وأعمال قطع الطرق. ولهذا كان على المتوسط أن يجد حلا لمشكلة تضخم عدد سكانه، الأمر الذي يفسر المحاولات المتكررة لطرد اليهود ابتدأ من مطلع القرن الخامس عشر، وعمليات طرد الموريسكين في عهد فيليب الثاني. وفي المحور الثالث من هذا الفصل تعرض بروديل للاقتصاد المتوسطي، حيث أشار إلى أن الزراعة في المتوسط كانت تحقق الفائض في الإنتاج، هذا بالإضافة إلى ذلك الفائض والصادرات الصناعية كانا يسدان نفقات مشتريات المتوسط من القمح والأسماك المجففة والسكر، فالعالم المتوسطي عالم فلاحي، والأرض هي المصدر الأول للحياة والإنتاج، لكن رغم ذلك فإن أساليب الزراعة ونظام المزروعات لم تعرف أي تطور يذكر، إذ يقول بروديل '' إن اندفاعية القرن السادس عشر في المجال الزراعي لم تكن في واقع الأمر إلا استعادة لما تم انجازه في القرن الثالث عشر''، أما بخصوص المجال الصناعي فلقد كان أكثر من مليونين شخص يعيشون من الحرف في المتوسط، دون احتساب الحرفيين الريفيين، لكن رغم ذلك فإن قيمة الإنتاج الصناعي الإجمالية متدنية عن قيمة الإنتاج الزراعي. غير أنه في بداية القرن السادس عشر تنامت الصناعات المدنية في المتوسط وحلت الرأسمالية الصناعية محل الرأسمالية التجارية، حيث تمركزت المنشآت الصناعية واندفعت في قوتها، في الكثير من المدن المتوسطية، وكانت صناعة النسيج والبناء من أهم هذه الصناعات وأكثرها ازدهارا. وفيما يتعلق بالنشاط التجاري في المتوسط، فهي لم تكن تقتصر فقط على القمح والتوابل بل تعدتهما إلى الفواكه، فالتجارة كانت تجني أرباحها من الفارق الكبير بين أسعار السلع في البلد المصدر وأسعار هذه السلع في البلد المستورد، خلال هذا المحور تطرق بروديل كذلك، إلى دور الدول في الحياة المتوسط الاقتصادية، لكونها هي التي كانت من أكبر المبادرين في الحياة الاقتصادية، وهي التي كانت تخوض الحروب ذات التكاليف الباهظة، وهي التي كانت تهتم بالمنشآت الاقتصادية، أما البنوك العامة فنشأة مع ظهور الدولة المدينة في القرن السادس عشر، أما على صعيد النقل البحري فلقد كان يبلغ ثلاث أضعاف النقل البري الذي ظل على صلة حميمة بالحياة الفلاحية، أما فيما يخص التداول النقدي فإنه لم يكن ساريا إلى بين قلة من البشر.
والفصل الثاني من هذا القسم فهو يحمل عنوان الاقتصادات: المعادن الثمينة، العملات، والأسعار، حيث تعرض في المحور الأول منه المعنون بالمتوسط والذهب السوداني، إلى أن المتوسط كان قبل القرن السادس عشر يتدفق عليه الذهب والفضة من أماكن مختلفة، كان أخرها ذهب السودان الذي كان يمر من شمال إفريقيا قبل القرن العاشر، الأمر الذي جعل هذه الأخيرة مصدرا أساسي لذهب، ومحركا لتجارة المتوسط، مما حمل التجار الأوروبيين على اجتياحه والإقامة في كل طنجة وفاس وقسطنطينة ووهران وغيرها، وبالتالي كان المستفيد الأكبر من ذهب السودان هما المسلمين، والأوروبيين. لكن بعد وصول الذهب الأمريكي إلى أوروبا واستثماره على نفس وتيرة الذهب الإفريقي، أدى إلى انهياره في النصف الثاني من القرن السادس عشر. أما المحور الثاني من هذا الفصل فلقد عالج فيه فضة أمريكا، حيث ذكر بأنه في النصف الثاني من القرن السادس عشر، ازداد تدفق كميات الفضة الأمريكية على اسبانيا، وبالتالي كانت هذه الأخيرة بمثابة أمريكا للممالك الأوربية، لكن بعدما فقدت طرق المواصلات سهولتها بين الشمال الأوروبي واسبانيا بسبب أزمة 1566، دفعت بإنجلترا إلى القيام بعملية القرصنة ضد السفن الإسبانية، مما أرغم هذه الأخيرة على الاتجاه نحو فرنسا وطرقها البرية القصيرة وغير الأمينة مما كان يتطلب حماية عسكرية مشددة، لكن بعد سنة 1578، انتقل طريق المعادن الإسبانية من فرنسا إلى المتوسط، الذي أصبح يعرف بطريق برشلونة- جنوى، فأصبح بذلك المعدن الإسباني الأبيض يتدفق إلى الشمال مرورا بجنوى، وبذلك بلغ تدفق المعادن الثمينة إلى جنوى إلى رقم قياسي، وغدت إيطاليا في ثمانينات القرن السادس عشر مركزا لتوزيع العملة الإسبانية البيضاء، فجنت بذلك إيطاليا أرباحا طائلة، وأصبحت جنوى لأمد طويل أحد أقطاب التمويل العالمي، غير أن الجنويين اطمأنوا إلى تفوقهم وأهملوا السلع الأطلسية، الأمر الذي أدى إلى صعود رأسمالية جديدة وهي الرأسمالية الهولندية التي امتلكت منذ عام 1609 أكثر البنى حداثة وبدأت تحل محل الرأسمالية المتوسطية. ثم انتقل للحدث عن ارتفاع الأسعار في المحور الثالث، حيث ذكر بأن هذا الارتفاع كان قد بدأ قبل مستهل القرن السادس عشر، وشمل المتوسط كله، الأمر الذي أدى إلى بؤس الفقراء، الذين كانت تدفع أجورهم بالعملة، النحاسية التي غالبا ما كانت تسحب من أسواق التداول لتعاد إليه بعد تخفيض وزنها، وأشار كذلك إلى أن تضخم النقدي كان يؤثر على الفقراء والأغنياء معا، وأن الملاك العقاريين وحدهم الذي لم يكن يطاولهم أثر التضخم النقدي الأمر الذي يفسر اتجاه التجار وأثرياء المدن إلى شراء الأراضي وتملكها، وهذه الأزمة طاولت بالخصوص المصاريف والتجار. وختم بروديل هذا الفصل بمحور تحت عنوان ثلاث عصور معدنية، وأول هذه العصور هو عصر الذهب السوداني، حيث كانت تتم المدفوعات كلها بالذهب، والعصر الثاني هو عصر الذهب والفضة الأمريكيين والذي أصبحت حركة المعدن الأبيض ناشطة ومرئية، أما أخير هذه العصور التي تحدث عنها بروديل هو عصر النحاس والعملات المعدنية المزورة، الذي بدأ مع تنامي استخراج النحاس من مناجم كل من ألمانيا وهنغاريا واليابان والسويد.
وفيما يتعلق بالفصل الثالث من هذا القسم، فهو يحمل عنوان الاقتصادات: التجارة والنقل، يهدف من خلاله الوصل إلى ترسيمة عامة للنشاط التجاري في المتوسط، حيث تطرق في المحور الأول من هذا الفص إلى تجارة البهار التي أصيبت بأزمة خانقة بعد اكتشاف الرأس الرجاء الصالح، وسيطر المستورد البرتغالي على قسم كبير من السوق الأوروبية، لكن رغم ذلك فإن الشركات التجارية المتوسطية القوية والمنغرسة شبكتها في المحيط الهندي، استطاعت مواجهة التقدم التجاري البرتغالي، خاصة وأن بهار الطرق التجارية البرتغالية كانت تتدنى جودته بسبب طول المدة التي يستغرقها نقله بحرا، إضافة إلى فقدان السيطرة البرتغالية على مصادر البهار، ومما زاد من انتشار البهار في الأسواق الأوربية، انتهاء الصراع التركي البرتغالي في الخليج الفارسي، وانتعاش طرق تجارة التوابل المتوسطية، وعاد بذلك النشاط التجاري لكل من القاهرة والإسكندرية من جهة، وحلب وطرابلس من جهة أخرى، في حين لم ينتعش البهار البرتغالي إلى بعد توقيع اتفاقية السلام بين البرتغال والأتراك. أما المحور الثاني من هذا الفصل فهو يحمل عنوان توازن القمح وأزمته، والذي تطرق فيه إن قمح المتوسط لم يعرف أبدا وفرة كاملة، وذلك لعدة عوامل منها حاجة القمح لأراضي زراعية واسعة وجهد كبير بسبب قلة الأمطار والفيضانات والجفاف، فضلا عن تدخل المدن الدولة في تجارته، واتخذه كوسيلة سياسية لتحصيل الضرائب، كما أشار بروديل إلى أن القمح يتضاعف سعره عند نقله برا لمسفات طويلة، في حين كان البحر هو الوسيلة الناجعة لنقله. أما أزمات القمح التي مر منها المتوسط في أربعة وهي أزمة الجزيرة التي بدأت في البرتغال، الأمر الذي يفسر قيام هذه الأخير باحتلال السهول المغربية، والأزمة الثانية بدأت من سنة 1555 وذلك عندما أقدمت تركيا على منع تصدير القمح منها، وثالث هذه الأزمات تمثلت في إغلاق سوق القمح المشرقي في عام 1570، الأمر الذي حمل إيطاليا على الاعتماد على مواردها الداخلية، أما الأزمة الرابعة فهي تمثلت في صعوبات تزود المتوسط بالقمح. وفي المحور الثالث من هذا الفصل الذي يحمل عنوان أشرعة المتوسط، تعرض بروديل إلى مسألة اجتياح السفن الشمالية لحركة التجارة والنقل في المتوسط، وذلك عبر مرحلتين، امتدت الأولى من سنة 1450 إلى سنة 1552، والتي تميزت بازدهار اقتصادي عام في المتوسط ومزاحمته من طرف الشمال في هذا الازدهار، وابتدأت المرحل الثانية من سنة 1573، والتي تميزت بدخول السفن الشمالية والأطلسية المتوسط بكثافة وقوة هذه المرة، وخاصة الإنجليز. ثم انتقل للحديث في المحور الربع من هذا الفصل عن انحطاط المتوسط، حيث أشار إلى أن الهولنديين لاختراقهم للمتوسط بدقة متناهية، إذ أقاموا بتشكيل شبكة للتجسس التجاري، وقيامهم برحلات تجارية  تحت رايات مزورة، وذكر بأن الطرق الجديدة لم تكن سببا في إزاحة المتوسطيين عن مواقع سيطرتهم ونقلت مركز الثقل التجاري إلى الشمال، وأن اختراق الإنجليز والهولنديين هما من أذنا بأفول نجم المتوسط، الذي تنضب ثروته وإنما انتقلت إلى أيد غير أهله. وفي هذا الصدد يقول '' إن المتوسط هو الذي غذى أول تراكم رأسمالي في الشمال، وإنه لم ينحط في نهاية القرن السادس عشر، بل أصبح مرتبطا بقدر أوروبا التي كانت آنذاك على عتبة أزمنتها الحديثة''.
والفصل الرابع من هذا القسم، يحمل عنوان صعود الإمبراطوريات وانهيارها، والذي تعرض فيه إلى أن الدول الإقليمية، كانت في الأصل امتدادات لمدن قوية فقدت في القرن الخامس عشر مقومات حياتها المستقلة، بسبب عجز الدول المدينة القيام بالأعباء السياسية والمالية المترتبة عليها، وذلك من خلال محوريين، الأول تحت عنوان في صعود الإمبراطوريات، أشار فيه إلى من نتائج الأزمة المدينية، ولادة إمبراطوريتين اثنتين في جهتي المتوسط الإمبراطورية الإسبانية والإمبراطورية العثمانية، الأولى قامت على الحس الديني، وعودة فكرة الصليبية في اسبانيا، كما أن اتجاه منطقة كاستيليا إلى التحالف مع أراغونا لم يكن من باب الصدفة بقدر ما كان خيارا متوسطيا حال دون الوحدة مع البرتغال وأتاح وحدة شبه القارة الأيبيرية، فأصبحت الإمبراطورية في عهد شارل كينت أوروبية أكثر منها اسبانية، غير أن هذا الوضع لم يستمر في عهد فيلب الثاني في النصف الثاني من القرن السادس عشر، حيث أصبحت الإمبراطورية في عهده تتمركز في اسبانيا، وفي الجهة الأخرى من المتوسط كانت هناك الإمبراطورية العثمانية، التي نهضت بين صدف المعارك على حدود أسيا الصغرى حيث كان الدين والحروب لا ينفصلان. أما المحور الثاني فهو يحمل عنوان ضعف الدول، تطرق فيه بروديل إلى كيفية انحلال الدول، حيث أشار إلى أنه بالرغم من الاختلاف في أنماط الحكم والإدارة بين الإمبراطوريتين العثمانية والإسبانية، فهناك الكثير من التشابه بينهما، ففي تركيا كانت فئة الموظفين في غالبيتها من الإنكشارية الذين انتزعوا صغارا من بيوتهم وعائلاتهم المسحية، وموظفو الإمبراطورية الإسبانية غالبا ما كانوا ينقلون من مكان إلى أخر في أرجاء الأمر الإمبراطورية الواسعة، الأمر الذي أدى إلى تفشي الرشوة في صفوف هذه الفئة، فأصبحت تنال الوظيفة بالبيع والرشوة، في كلا الإمبراطوريتين، وهكذا ساهمت الرشوة في انحلال الإمبراطورية الإسبانية بعد وفاة فليب الثاني، كما ساهمت في انحلال الإمبراطورية العثمانية بعد وفاة سليمان القانوني، وبالإضافة إلى الرشوة نجد تبذير الأموال في البذخ والترف بالنسبة للدولتين. فيما كانت المجاعات والحروب الإنفصالية مشتعلة، أضف إلى ذلك النظام الضريبي الذي كان بدوره علامة من علامات ضعف الدولة. وبذلك بدأ الانحلال يضرب في أجسام الإمبراطوريتين منذ نهاية القرن السادس عشر.
أما بخصوص الفصل الخامس من هذا القسم فهو بعنوان المجتمعات وصرعتها المقنعة، والذي تطرق فيه بروديل إلى أن المجتمعات المتوسطية في القرن السادس عشر لم تشهد إعادة نظر حقيقية في أسسها، ففئة النبلاء في البلاد المسيحية والإسلامية كانت تحتل موقعا أولا في الحياة السياسية والاجتماعية، محتفظة لنفسها بوسائل الترف والتبذير، ولهذا ففي القرن السادس عشر لم تكن فكرة خلق نظام اجتماعي جديد قد نضجت بعد، وفي المحور الأول من هذا الفصل المعنون بخيانة البرجوازية، تطرق بروديل إلى أنه في القرن السادس عشر كانت البرجوازية المرتبطة بخدمة الملك، تعيش على حافة الضياع، الأمر الذي دفع بها الاتجاه إلى شراء الأراضي والعيش في كنف القيم وحيازة ألقاب النبلاء، لكون نمط عيش هذه الأخيرة كان يستهويها على نحو دائم وفي هذا الصدد يقول بروديل '' بدأ البرجوازيون يتحولون إلى النبلاء، فكان إصرارهم على شراء الأراضي مقدمة لشرائهم الألقاب النبيلة ... فالبرجوازية بهذه المعنى خانت نفسا بنفسها خيانة لا واعية، لأنها لم تكن تعي نفسها كطبقة برجوازية، بقدر ما كانت تطمح للوصول إلى صفوف الارستقراطية''. أما المحور الثاني من هذا الفصل فهو تحت عنوان البؤس والعصابات، فلقد ذكر فيه بأن الاضطرابات التي كان تحصل في أنحاء المتوسط، لم تكن تثير انتباه أحد بسبب تكرارها وازدياد عددها، وفي ظل غياب انفجارات اجتماعية شاملة برز بشكل صامت من البؤس تكاثر الفقراء والمشردين والتائهين وقطاع الطرق والمتسولين والمجانيين، الأمر الذي حمل المدن المتوسطية على تنفيذ إجراءات صارمة تتيح لها التخلص من فقرائها ومشرديها. كما أشار إلى أن أبناء النبلاء الذين كانوا يصابون بانهيار اقتصادي غالبا ما كانوا يشكلون عصب هذه الحروب الاجتماعية المقنعة، فكانت بذلك العصابات أرستقراطية وشعبية في أن معا.
وفي ما يتعلق بالفصل السادس من هذا القسم، فهو يحمل عنوان الحضارات: فردوس البشر وجحيمهم، حيث ذكر فيه بأن الحضارات هي شخصيات المتوسط الأكثر تعقيدا وتناقضا، إذ يقول '' فهي أخوية ليبرالية من وجه أول، واستبدادية شرسة من وجه ثان، فضلا عن أنها مسالمة ومحار
بة في أن معا''، وأشار إلى أن كل شيء في المتوسط عرضة للتبادل والانتقال والاستعارة، لكن رغم هذا الاختلاط فإن الحضارات تبقى منفصلة ومحتفظة بشخصياتها العميقة والثابتة، كما أشار كذلك إلى أن المتوسط يحوي ثلاث حضارات هائلة، الأولى هي الحضارة الغربية، اللاتينية الرومانية، التي اعتبرها الأكثر مقاومة، أما الحضارة الثانية هي الحضارة العربية الإسلامية، التي يجمعهما مع الحضارة الغربية تعارض عميق يقوم على التنافس والعداء والاقتباس، والحضارة الثالثة هي الحضارة اليونانية. ثم انتقل للحديث في المحور الأول من هذا الفصل إلى تداخل هذا الحضارات وثباتها، حيث ذكر بأن حضارات المتوسط في القرن السادس عشر كانت تعيش صراعات عنيفة، فالإسلام المتمثل في الإمبراطورية العثمانية سيطرة على بلاد البلقان المسيحية، وإسبانيا اجتاحت غرناطة، وأشار إلى أن هذه السلوكيات كانت كنتيجة حتمية للكثافة السكانية في البلاد المسيحية، والفقر الديمغرافي للإمبراطورية العثمانية، ففيما كان الأتراك يفتحون أبواب إمبراطوريتهم في وجه الغرباء، كان المسحيين يغلقون أبواب بلادهم، الأمر الذي يفسر طرد الموريسكين من اسبانيا. أما المحور الثاني من هذا الفصل فهو بعنوان قدر اليهود والذي تعرض فيه إلى أن اليهود كانوا يشكلون بدورهم خصما صغيرا، لكنه يمتلك إمكانيات هائلة وغريبة، تتمثل في إتقانهم استخدام أسلحة الضعفاء، كالاستكانة والخضوع والحيلة، فضلا عن الشجاعة والبطولة، وامتلاكهم لقدرة عجيبة في التأقلم، الأمر الذي جعل منهم كبار الحرفي التبادل، ففي القرن السادس عشر قاموا بنقل تقنيات وصناعات كثيرة من الغرب إلى الدولة العثمانية، أما سبب الحقد عليهم والعداء لهم فسببهما أنهم كانوا يشكلون شبكة تجارية هامة في العالم الذي انتشروا في أرجائه كلها. في حين أعطى بروديل للمحور الثالث من هذا الفصل عنوان لنفهم اسبانيا، والذي تطرق فيه إلى أن العلامة الأساسية في التاريخ اليهودي هي التلازم بين الإضطهادات والطرد، وبين حركة الظروف الاقتصادية، ذلك أن الإجراءات ضدهم كانت تتخذ في فترات التراجع والأزمات الاقتصادية في الغرب، ولتفسير هذا الأمر اتخذ المثل الإسباني، إذ أشار إلى أنه في الوقت الذي كانت فيه اسبانيا تسير في اتجاه الوحدة السياسية التي لم يكن في وسعها أن تتصورها إلا على صورة وحدة دينية، كانوا بنو إسرائيل يسيرون في اتجاه قدرهم، الذي هو الشتات على المستوى العالمي. وختم بروديل هذا الفصل بمحور تحت عنوان الإشعاعات الخارجية، والذي أشار فيه إلى إشعاعات الحضارات وعطاءاتها الملازمة لقوتها وسيطرتها، فإسلام شمال إفريقيا بقي يشع فوق الصحراء وصولا إلى السودان، والإسلام التركي أضاء حيزا ثقافيا من البلقان حتى أعماق أسيا وصولا إلى المحيط الهندي، أما إشعاعات الغرب المتوسطي فتبدوا أكثر اتساعا وتميزا، لأنه سار في اتجاه معاكس للتاريخ، لتسطع إشعاعاته في الشمال الأوروبي الذي سيصبح مركز القوة العالمية، وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر وصلت إشعاعات الغرب إلى أمريكا.
وفي الفصل السابع والأخير، الذي أخد عنوان أشكال الحرب، تطرق فيه بروديل لأهمية تاريخ المعارك، التي لا تكف عن خلخلة حياة البشر وتمزيقها، وفي المحور الأول من هذا الفصل الذي أعطاه عنوان الأساطيل والحصون، ذكر بأن الجيوش التي كانت تنقلها السفن الشراعية لم تكن تستطيع التوغل بعيدا في البلدان المهاجمة، نظرا لضخامة تلك الجيوش وصعوبة إمدادها، إضافة إلى أن القلاع لم يكن قد تم تشيدها على نطاق واسع، أما بخصوص الأسلحة فلقد عرفت تطورا، ملموسا حيث بدأت في العقود الأولى من القرن السادس عشر تتفوق صناعة المدافع الشمالية في كل من ألمانيا وفرنسا، الأمر الذي يفسر انتصار إيطاليا على الأتراك، لكن سرعان ما انتقلت هذه التجهيزات العسكرية إلى العثمانيين في نهاية القرن السادس عشر، أما فيما يتعلق بالمصاريف التي كانت تتطلبها صناعة الأسلحة، فلقد أشار بروديل إلى أنها كانت تمثل دورا بارزا في تحديد ساعة اختيار الحرب وساعة إيقافيها، ونظرا لكون الحرب في المتوسط كانت باهظة النفقات، فلقد أدت إلى إفلاس خزينة كل من اسبانيا وتركيا. أما المحور الثاني من هذا الفصل فهو تحت عنوان الحضارات والحروب، حيث أشار إلى أنه بالإضافة إلى الحروب الخارجية، كانت الحضارات المتوسطية تنهك نفسها في حروب داخلية غير منتهية، وذكر بأن الحروب الخارجية بين المسيحية والإسلام كانت تعقبها دائما حروب داخلية، واستطرد في الحديث عن أهم الحروب التي جريت بين الإسلام والمسيحية في المتوسط. ثم انتقل للحديث في المحور الثالث والأخير من هذا الفصل عن القرصنة الجزائرية، التي اعتبرها ظاهرة قديمة في المتوسط، وأن لها قواعدها وتقاليدها، كما أشار إلى أنها كانت شكلا من أشكال الحرب ضد المدن والقرى لاقتناص الأسرى وقطعان المشية والثروات، وأنها لم تكن نشاطا فرديا وإنما كانت جماعية تشترك المدن والدول في تنظيمها، فمدينة الجزائر البعيدة عن مركز الدولة العثمانية، فضلا عن ازدهار القرصنة فيها كانت محط أنضار السفن المسيحية التي كانت تشتري منها الأسرى والسلع، مما أتاح لبعض سكانها استغلال هذه الفرصة، حيث العلاج علي الذي كان صيدا صغيرا أصبح ملكا على مدينة الجزائر، وفي الجهة الأخرى من البحر كانت مالطة مركزا للقرصنة وشبكاتها على نحو ما كانت الجزائر، وهكذا كانت القرصنة بتقلباتها وبمناطق ازدهارها تعكس بوضوح الحركات الكبرى للحياة المتوسطية، وأصبحت تستهلك الجهاد الإسلامي والصليبية المسيحية. 
5.    خاتمـة.
وفي الخاتمة التي أخدت عنوان الحركة القرنية والحقب الطويلة، تحدث بروديل عن مسار حركة الحياة الإقتصادية التي أشار بأنها تمر بعشرات من الحركات المتفاوتة، فهناك الحركة القرنية، وهناك الظروف الطويلة، والدورة المدزوجة، ثم هناك الظروف القصيرة، ثم انتقل للحديث عن مسار الحياة الإقتصادية في المتوسط حسب قواعد كل من الحركة القرنية والظروف الطويلة، فأعطى للمحور الأول من هذه الخاتمة عنون الحركة القرنية، التي ذكر فيها بأن الحياة الإقتصادية في المتوسط بدأت في الصعود القرني في عام 1470، وأن هذا الصعود بدأ يتباطأ في ما بين 1590 و1600، أشار إلى أن هذا الصعود كان بطيأ وعميقا، حيث عمل على ازدهار الحياة المادية، لأن كل تراجع في المجالات الصناعية والتجارية كانت ترافقه تعويضات في مجلات أخرى، وذكر كذلك بأن حركة الإرتفاع القرنية هذه لا تعني ارتفاع في مستوى المعيشة، بل إن التقدم الإقتصادي كان دائما يحصل على حساب الجموع البشرية الفقيرة التي تزداد فقرا، أما المحور الثاني من هذه الخاتمة فهو يحمل عنوان الحقب الطويلة، الذي ذكر فيه بأن هذه الحقب في المتوسط خلال القرن السادس عشر مرت بأربع موجات، استغقرقت الأولى 49 سنة والثانية 30 سنة والثالثة 36 سنة والرابعة 46 سنة، ثم أشار إلى أنه بجانب هذا الإنتظام الذي رسمته حركة المد والجزر، فهناك تفاوت في السرعة القرن السادس العشر الأول، قرن الذهب بوفرة، والقرن السادس عشر الثاني، قرن الفضة بوفرة. وربط بروديل هذه التقلبات بظهور ثلاث مراحل رأسمالية متتابعة في المتوسط: رأسمالية تجارية قبل عام 1530، ورأسمالية صناعية في أواساط القرن، ثم رأسمالية مالية في نهاية القرن. 
6.    خلاصة عامة.
وعموما يمكن القول إن فيرناند بروديل، اسطاع أن يكرس جهوده من أجل فتح التاريخ على مناهج العلوم الاجتماعية ومفاهيمها، وتناول الكتابة التاريخية من خلال تعدد الأزمنة أو الآماد، كشبكة مفاهيمية لإدراك التاريخ، حول برنامج موحد يسعى إلى فهم الواقع الاجتماعي في شموليته، وبناء تاريخ كلي. هكذا دشن فيرناند بروديل لمرحلة من البحث في تاريخ بنيوي، كمي، بلغ فيها إشعاع هذا الرجل، ومن خلاله إشعاع مدرسة الحوليات، درجة العالمية.
وبالرغم من الانتقادات التي تعرض فيرناند بروديل، من طرف مجموعة من المؤرخين، كان أبرزهم فرانسوا دوس الذي يرى بأن بروديل ''هو الذي سمح من خلال توجهاته بجملة من الانزلاقات التي ستؤدي إلى تفجر الحقل التاريخي، ويظهر هذا الأمر في نقطتين رئيسيتين: أولا بتفضيله لتاريخ الزمن الطويل المتنبه للجغرافيا والاقتصاد فتح الباب أمام التاريخ الجامد، ثانيا بتفكيكه للوحدة الزمنية  حيث سمح بدراسة مواضيع غير متجانسة، مما أدى إلى تفتت التاريخ''. فبالرغم من كل هذه الانتقادات فان فيرناند بروديل أصبح يعد أمير التاريخ، حيث تجاوز تأثيره حدود فرنسا كي يصل نيويورك، وموسكو، وطوكيو، وبكين، ونيودلهي، والرباط، وتونس، والقاهرة، وعشرات العواصم الأخرى. لكونه أعطى درساً في المنهجية التاريخية لجميع المؤرّخين المعاصرين ولم يعد بوسع أحد أن يتجاهله. ولم يعد أحد قادرا على كتابة التاريخ بعد بروديل مثلما كان يكتبه قبله. فهو مخترع المنهجية الحديثة والمصطلحات الجديدة التي قلبت كتابة التاريخ رأساً على عقب وأصبحت تدرس في شتّى الجامعات العالمية. 

إرسال تعليق

 
الى الاعلى