0
فرناند بروديل (1902-1985) هو أحد أشهر المؤرّخين الفرنسيين خلال القرن العشرين، بل وأحد أبرز المؤرّخين الذين عرفهم العالم حتّى اليوم. وهو أحد مؤسّسي المدرسة الفرنسيّة الجديدة لكتابة التاريخ المعروفة باسم "مدرسة الحوليّات" التي رأت النور في ثلاثينات القرن الماضي.

ولد بروديل في عام 1902 في قرية صغيرة في منطقة "اللورين" الفرنسيّة الواقعة آنذاك تحت الاحتلال الألمانيّ، وحصل في يوليو 1923 على شهادة التبريز المرموقة. ظلّ بروديل مرتبطاً جدّاً بأصوله الفلاحيّة، وكان يُردد دائماً: "أنا مؤرّخ من أصل فلاحيّ". مارس بروديل مهنة تدريس مادّة التاريخ أوّلاً في الجزائر، التي كانت لا تزال في ظلّ الاستعمار الفرنسيّ، وذلك خلال سنوات 1924-1932، في مدينة قسنطينة، ثمّ في العاصمة الجزائر.

نال بروديل شهادة الدكتوراه عن أطروحة موضوعها "البحر الأبيض المتوسط والعالم المتوسطيّ في عهد فيليب الثاني"، وهو عنوان كتابه الشهير الذي يُعتبر أحد أهمّ الكتب التاريخيّة الصّادرة في القرن العشرين، والذي نقل إلى لغات عديدة.

وبعد تجربته في التدريس في الجزائر والبرازيل، عيّن أستاذاً في المدرسة التطبيقيّة للدراسات العليا في باريس. في عام 1940 اعتقله الألمان ونقلوه إلى ألمانيا، حيث وضع تحت الإقامة الجبريّة حتّى عام 1945، حيث أمضى كلّ تلك السنوات في إعداد رسالة الدكتوراه. وفي السنة 1947 ناقش رسالة الدكتوراه وموضوعها "البحر الأبيض المتوسط والعالم المتوسطيّ في عهد فيليب الثاني".

وعقب الحرب العالميّة الثانية، أصبح إلى جانب المؤرّخ لوسيان فافر مديراً مساعداً لمجلّة الحوليّات (Les Annales) الشّهيرة، ثمّ أصبح بعد وفاة فافر عام 1967 مديراً لها. كما أصبح كاتباً للشعبة السّادسة التطبيقيّة، حيث استطاع تحويلها إلى أكبر مؤسّسة للعلوم الاجتماعيّة في فرنسا، وهو ما أثار حفيظة الجامعات الفرنسيّة، وعلى رأسها السوربون العريقة.

كان هناك تطابق بين توجّه دراسته حول المتوسّط وتوجّهات مجلة "الحوليّات"، وعيّن في العام 1949 مديراً لمركز الدراسات التاريخيّة...

وقد كتب المؤرّخ والقانونيّ الفرنسيّ إيف لوموان، الذي تعرّف على بروديل عام 1979 وبقي قريباً منه حتّى وفاته عام 1985، سيرة حياة بروديل تحت عنوان "فرنان بروديل: طموحات مؤرّخ وأشكال قلقة"، قال فيها إنّه يريد من خلال كتابه أن يوضّح "طموحات" المؤرّخ فرنان بروديل والأسئلة التي كان يطرحها على نفسه وما حقّقه، وما لم يستطع تحقيقه، من إنجازات ومصادر قلقه الذي يمكن استشفافه من أعماله، بمعنى أنّه ليس "قلقاً بسيكولوجيّاً"، ولكنّه ذا "طبيعة علميّة". ذلك أنّ بروديل كان يُراوده قلق كبير بشأن "المعنى الجديد" الذي ينبغي أن يأخذه التاريخ في "جوقة" العلوم الاجتماعيّة، أي القلق الذي كان مصدره "حوار" التاريخ المقطوع مع العلوم الصّرفة، مثل الفيزياء والرياضيات ــ التي أحدثت نظريّات آينشتاين نوعاً من "إعادة صياغتها"، في ما يتعلّق بنسف الأفكار المتعلّقة بالزّمان والمكان اللذين كان المؤرّخون يتحرّكون في مجالهما حتّى ذلك الوقت. ويدعو لوموان إلى إعادة قراءة الحوارات التي دارت بين مؤسّس "البنيوية" كلود ليفي ستروس والمؤرّخ فرناند بروديل، منذ ثلاثينات القرن الماضي، لفهم عمق "المنعطف" الذي شرع به بروديل في ما يتعلّق بفهم التاريخ.

إحدى المقولات الأساسيّة التي يُشدّد عليها بروديل في سيرورة التاريخ هو أنّ التبدّلات العميقة ــ المنعطفات- تتمّ خلال "المدى الطويل" بحيث إنّها تستغرق أجيالاً كاملة. يقول بروديل: "إنّ الهدف السريّ للتاريخ، ودافعه العميق، ليس شرح وتفسير ما هو معاصر". والمقولة الأساسيّة الأخرى التي يشدّد عليها بروديل هي دور العوامل الاقتصاديّة والاجتماعيّة في صياغة تاريخ المجتمعات وفي صياغة "قواعد الحضارات"...

لقد درس بروديل الحضارات بلغة تأليفيّة عالية، ونأى بنفسه عن الذهنيّة "المتمحورة حول الذات الأوروبيّة" والاستعلاء الذي طبع كتابات المثقّفين الغربيين عن العوالم الأخرى. كان مسكوناً بفكرة أنّ علم التاريخ هو "العنصر الذي من دونه لا يمكن لأيّ وعي وطنيّ أن يتشكّل، والوعي الوطنيّ الذي من دونه لا يمكن لأيّ ثقافة أصيلة أو أيّ حضارة حقيقيّة أن تتشكّل".

لقد أعمل بروديل تفكيره في موضوع الحضارات الإنسانيّة وحاول إلقاء نظرة تأخذ بعين الاعتبار الجوانب الماديّة للحضارات (البنى الاقتصاديّة) وكذلك الأديان والثقافات والأطر السياسيّة، وذلك على المدى الطويل. ونجد في ثنايا الكتاب أفكار بروديل ومفاهيمه المعروفة، لكنّها ليست كلّها مبلورة بشكل واضح، لأنّ المؤلف لم يكن قد بلغ بعد نضجه الفكريّ الكامل. وتدور هذه الأفكار حول الأهميّة المحدودة للأحداث السياسيّة في التاريخ الإنسانيّ وحول محدوديّة حريّة الإنسان في صنع تاريخه وحول قوّة تأثير الجغرافيا وخاصّة البحر. ومن أفكاره ضرورة اعتماد "المدى الطويل" للوقوف على معنى الأحداث والظواهر التاريخيّة العميقة والرئيسيّة، وهو مفهوم مستوحى من الجغرافيا والماركسيّة. كما يؤمن بروديل بضرورة مقاربة الاقتصادات العالميّة بمفهوم الاقتصاد ــ العالم، وأهميّة التثاقف بين الحضارات.

وعلى الرّغم من مرور عقود طويلة على كتابته، تكمن أهميّة كتاب بروديل برؤيته للتاريخ كعمليّة شاملة تدخل فيها الجغرافيا والديموغرافيا والاقتصاد إلى جانب الحكومات والجيوش والحروب والمناورات السياسية. هنا لا يبقى التاريخ تسلسل عهود وحكّام وحروب، بل يبدو أنّ هذه هي أقلّ الأشياء بروزاً وقد لا تكون سوى نتائج في الدورة الشاملة التي تؤدّي فيها الثقافة والاقتصاد والجغرافيا أدواراً محدّدة.

فكرة الأزمنة الثلاثة

ميّز بروديل بين ثلاثة أزمنة تاريخية: أولاً الزمن الجغرافي أي التاريخ شبه الثابت، المستقر، الذي لا يكاد الإحساس بــ"تقلصاته" ممكناً. وهذا الزمن التاريخي يخص بالتحديد العلاقة مع البشر ومع الوسط المحيط.

أما الزمن الثاني الاقتصادي الاجتماعي فيخص التاريخ "المتحرك ببطء"، ويقصد فيه بروديل الزمن الاجتماعي الذي يخص فعل المجموعات الإنسانية الضمني، أي الذي يحدث في عمق المجتمعات بحيث لا يبدو منه الشيء الكثير على السطح.

وأخيراً الزمن الثالث السياسي الذي يخص التاريخ التقليدي الحدثي "المتحرك على السطح"، أي الذي يعرف "أحداثاً ـــ منعطفات" في تاريخ المجتمعات كنتيجة لـلعمل البطيء للمجموعات الاجتماعية على المدى الطويل. وهذا التاريخ هو أكثر التواريخ تشويقاً وأكثرها غنى على المستوى الإنساني.

ولم يكن بروديل ينظر إلى الرأسمالية التي تمثل تعبيراً أوروبياً صريحاً عن حضارة مادية بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر على أنها "أيديولوجيا". بل كان يعتبرها "منظومة اقتصادية" ولّدتها تدريجياً استراتيجيّات البحث عن السلطة. ولم يكن يعتبرها خلافاً لماركس بأنّها تعمّق التفاوت بين البشر، بل رأى أنّ التفاوت كان أكثر عمقاً في المجتمعات ما قبل الرأسماليّة، وأثبت أنّ الاحتكار سمة أساسيّة من سمات الرأسماليّة....

الإسلام والعالم الإسلامي

في الجزء الثاني من كتابه "معجم الحضارات" يستعرض بروديل أهمّ حضارات العالم غير الأوروبيّة بدءاً بالإسلام، فالقارة السوداء، فالصين، فالهند، فالهند الصينيّة، فاليابان. وفي الجزء الثالث يتناول الحضارات الأوروبيّة ابتداء بأوروبا، فأميركا بشقّيها الشماليّ والجنوبيّ، ثمّ يُخصّص فصلاً مستقلاً للعالم الإنكليزي ومستعمراته في أنحاء العالم ثمّ يخصّ روسيا بفصل مستقلّ. وفي كلّ هذه الفصول هناك استحضار للتاريخ السحيق والحاضر الراهن وهموم المستقبل لكلّ حضارة على حدة.

في الفصول الخاصّة بالعالم الإسلامي على غرار بقيّة فصول الكتاب، ليس هناك تسلسل زمنيّ لفتوحات أو غزوات أو قيام دولة وسقوط أخرى، إذ يأخذ بروديل القارئ في رحلة مشوّقة إلى تاريخ كلّ حضارة على حدة ضمن سياقاتها التاريخيّة والجغرافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة بأسلوب إبداعيّ في كتابة التاريخ.

يقول بروديل: "تستغرق الحضارات زمناً طويلاً لكي تولد وتهيئ مستقرّها وتنهض، والاعتقاد بأنّ الإسلام ولد في ظرف سنوات معدودات مع (النبيّ) محمد(ص) هو صحيح جدّاً، لكنّه في الوقت نفسه غير صحيح، وفهم هذا الأمر صعب. لقد ولدت المسيحيّة نفسها مع المسيح وقبل المسيح بكثير، ومن دون محمّد والمسيح، لم يكن لتوجد لا المسيحيّة ولا الإسلام، إلا أنّ هذين الدينين الجديدين كانا قد اندمجا في جسم الحضارات القائمة قبلهما، وأصبحا يُمثلان روحها، وقد أسعفهما الحظّ منذ البداية، فتلقيا إرثاً غنيّاً وماضياً وحاضراً بأكمله ومستقبلاً أيضاً".

فعلى غرار المسيحيّة التي ورثت الإمبراطوريّة الرومانيّة وواصلتها، فقد انتصب الإسلام في بداياته في الشرق الأدنى الذي يُعتبر أقدم "مفترق طرق" للبشر والشّعوب المتحضّرة وربّما الأقدم للعالم. وهذا أمر له نتيجة هائلة، وهي أنّ الحضارة الإسلاميّة قد تبنّت لحسابها الخاصّ واجبات قديمة تفرضها الجغرافيا السياسيّة، وأشكالاً مدينيّة ومؤسّسات وعادات وقواعد وطرق قديمة من الاعتقاد والعيش.

ففي الشّرق الأدنى العنيد، المعارض للحضور الإغريقيّ والمعتنق للمسيحيّة، والذي كانت تعصف به القلاقل الدينيّة المتواصلة والعنيفة، وجدت الغزوات العربيّة الأولى(634 – 642م) موطئين مباشرين، سوريا (632م) ومصر(634م) اللتين استقبلتا الدين الجديد وانضمت لهما فارس (642م) بسرعة غير متوقّعة. واحتلّ الفاتحون العرب بسرعة الشّرق الأدنى بأكمله، وتجاوزوا حدوده كثيراً من جهة الغرب، باستثناء آىسيا الصغرى الجبليّة التي دافعت عنها بيزنطية وحمتها.

لقد شيّد الإسلام ديناً بفضل القرآن والأحاديث النبويّة وأفعال النبيّ، وهو دين اتّسم بالبساطة، ظهر في وسط مدينيّ في مكة، على هامش الجزيرة العربية التي كانت بدائيّة، بحسب بروديل. ووضعت جزيرة العرب البدويّة، قوتها المحاربة الاستثنائيّة في خدمة الإسلام. ويرى بروديل أنّ دور القبائل العربيّة يلفت الأنظار إلى الطريقة التي دعم الإسلام، هذه الحضارة التي ستصبح قريبة متأنّقة جدّاً، "بواسطتها تباعاً كلّ نجاحاته تقريباً بالاعتماد على القوى الحيّة لتلك "الثقافات" المحاربة وتلك الشّعوب البدائيّة التي استوعبها في كلّ مرّة وأدخلها إلى الحضارة".

ما تعلّمنا الجغرافيا

يمسح الإسلام سلسلة من الفضاءات المترابطة في ما بينها، والخاضعة في تخومها لتغيّرات حادّة جدّاً. لذلك فإنّ تاريخ الإسلام ـ في رأي بروديل ــ ليس تاريخاً هادئاً، ولم يكن كذلك، لكن تلك التغيّرات تظلّ نسبيّة، إذ تمتّع المسرح الإسلاميّ الشّاسع إجمالاً باستقرار ثابت، فهو يبدو وكأنّه سلسلة من الحقائق والتغيّرات. إنّ مناطق الإسلام اليوم التي سيطر عليها دائماً ومنذ زمن بعيد، تظلّ شاسعة، وهي ليست دائماً غنيّة، وهي تمتدّ من المغرب الأقصى والصحراء الأطلسيّة إلى الصين والجزر الأندونيسيّة والفلبين، أو من داكار إلى جاكرتا.

يقول بروديل: إنّ الكاتب أسد باي محقّ عندما قال "إنّ الإسلام هو الصحراء"، لكن هذه الصّحراء، أو بالأحرى هذه المجموعة من الصّحاري تقع من جهة بين ملاحتين وبين امتدادين من الماء المالح بالمتوسط والمحيط الهنديّ، ومن جهة أخرى بين ثلاث كتل كثيفة إلى حدّ ما، الشرق الأوسط وأوروبا ـ وأفريقيا السوداء. إنّ الإسلام هو قبل كلّ شيء "قارة انتقاليّة" تربط بين تلك الفضاءات الواسعة.

لقد كان الإسلام، الحضارة التي تفتقر إلى البشر، مجبراً بالأمس، على توظيف البشر الذين يجدهم في متناول يديه، وكان الافتقار المزمن للبشر شكلاً من أشكال فقره المتأصّل. والإسلام ظلّ مستفيداً ماديّاً من وضعيّته الجغرافيّة السياسيّة من عمليّات عبور القوافل والتجّار والسفن. ولا يمكن تصوّر هذه التحركات التجارية من دون مدن عظيمة، وهي كثيرة في عالم الإسلام، وكانت بمثابة التحركات التي تجعل حركة التنقل الشّاسعة هذه ممكنة.

لقد خلقت الدورة الأولى من الغزوات وهي الدورة العربية، إمبراطورية ودولة، لكنها لم تخلق حضارة. ويعتبر بروديل أنّ ازدهار الإسلام وعظمته يعودان إلى ما بين القرنين الثامن عشر والثاني عشر، وكلّ الباحثين مجمعون على ذلك، لكن الخلاف يتعلق باللحظة التي بدأ فيها التقهقر. لقد بدأ التراجع الحاسم منذ القرن الثالث عشر، لكن هذا يعني الخلط بين أمرين اثنين جدّ مختلفين: نهاية هيمنة ونهاية حضارة. من الواضح أنّ الإسلام فقد آنذاك مركز الريادة، لكن تقهقره الخطير لم يبدأ إلا في القرن الثامن عشر. إنّ قدر الإسلام هو قدر الكثير من الأمم التي تعتبر أمماً متخلّفة اليوم، لأنّها تخلّفت عن ركب الثورة الصناعيّة القادرة على جعل العالم يتقدّم بالوتيرة نفسها للآلة نفسها. إلا أنّ الإسلام لم يمت بصفته حضارة، جرّاء عدم النّجاح هذا. "لقد تأخّر الإسلام عن أوروبا بقرنين على المستوى الماديّ فقط، لكن أيّ قرنين!"، يضيف بروديل....
منقول من موقع: http://historyinarabic.blogspot.com/2012/11/blog-post_7017.html

إرسال تعليق

 
الى الاعلى