2






عرفت انجلترا خلال القرن السادس عشر تحولات كبيرة من الناحية السياسية و الدينية و في واقع الامر كان قد حصل تفاعل بين ما هو سياسي و ما هو ديني خاصة في عهد ملك انجلترا "هنري الثامن" ففي عهده وصلت الدولة مرحلة من القوة و العظمة اذ صار بامكان السلطة المركزية التحكم مجاليا في كل التراب الانجليزي و هذا التحكم في كل التراب الذي يشير الى الوحدة السياسية للبلد هو الذي يعرف في تاريخ انجلترا و اوربا عموما ب " الدولة القومية " . و قد مكنت هذه الوحدة السياسية من خلق مفهوم جديد من الناحية السياسية و هو مفهوم " السيادة " الذي تحدد بالقياس الى السلطة الدينية التي كانت تمارسها الكنيسة المركزية في روما بزعامة البابا و قد ادى هذا الوضع السياسي الجديد الذي استند الى مفهوم السيادة الى انفصال انجلترا عن كنيسة روما إذ اصبح ملك انجلترا هنري الثامن هو سيد الكنيسة الانجليزية بمعنى ان كنيسة انجلترا اصبحت تابعة للتاج الانجليزي ثم في مرحلة ثانية اعتنقت الكنيسة الانجليزية الجديدة مذهب مارتن لوثر الذي يؤكد على العلاقة المباشرة بين الفرد و خالقه دون وساطة و تبسيط الطقوس الدينية من جهة و اعتنقت ايضا مذهب المصلح الفرنسي جون كالفن الذي يبيح الربا و هذه المبادئ الجديدة هي التي خلقت في انجلترا مذهبا بروتستانتيا بسيطا من حيث الاعتقاد و نظاما اقتصاديا راسماليا .
في النصف الثاني من القرن السادس عشر تواصلت التطورات في انجلترا و لكن على المستوى الاقتصادي بالدرجة الاولى فقد عملت الملكة اليزابيث اولا من الناحية الداخلية على تحويل عدد من الكنائس الى ورشات للعمل الصناعي و ثانيا انشاء شركات تجارية عالمية خاصة " شركة الهند الشرقية(آسيا) و شركة الهند الغربية(أمريكا)" هذا بالاضافة الى تاسيس اول مستعمرة في امريكا الشمالية هي مستعمرة فيرجينيا سنة 1584م و بذلك دخلت انجلترا مرحلة جديدة في تاريخها و هي مرحلة السيطرة على البحار و السعي الى السيطرة على العالم و ذلك بعد تمكنها من التغلب على الاسبان سنة 1588م (توفيت الملكة سنة 1603م) .
و في القرن السابع عشر بدأت تتحول الامور في انجلترا خاصة على المستوى الداخلي ، تمثل في الصراع الكبير الذي دار بين الارستقراطية (النبلاء) و البورجوازية (التجار) و هذا صراع اقتصادي في عمقه اخذ مظهرا سياسيا داخل البرلمان او ما يعرف في انجلترا بمجلس العموم بين حزبين كبيرين هما حزب الليبراليين (البورجوازية) و حزب المحافظين(النبلاء) و قد برز تدافع سياسي قوي بين الحزبين خلال الانتخابات البرلمانية إبان سنوات 1679-1681م نادى خلالها الليبراليون باستقلالية القضاء و خضوع الحكومة لمراقبة البرلمان و المساواة المدنية
و ازداد هذا التوتر السياسي اكثر مع تولي جاك الحكم انجلترا سنة 1685م و كان جاك الثاني هذا ملكا كاثوليكيا متعصبا للكاثوليكيين ضد البروتسانت كما عمل على عرقلة اشغال مجلس العموم و امام هذا الوضع تحالف حزب الليبراليين و الجناح المستنير لحزب المحافظين ضد جاك الثاني و استدعوا الامير وليام اورنج حاكم اقليم من اقاليم هولند التابعة لانجلترا و زوجته ماري و هما بروتستانتيان و نزل فعلا وليام اورانج الى مدينة لندن بجيش مكون من 14000 جندي و ازاح جاك الثاني الذي فر الى فرنسا صحبة انصاره . كان ذلك سنة 1689م و هو التاريخ الذي يخلد الثورة المجيدة / الجليلةGlorious revolution و كان اول فعل سياسي قام به مجلس العموم هو اعلان (عريضة الحقوقBill of rights) و قد حددت عريضة الحقوق هذه التي كانت بمثابة دستور طبيعة العلاقة بين السلطة و الامة (السلطة التنفيذية(الحكومة) و السلطة التشريعية(البرلمان)) و قد تمثل ذلك في النقاط التالية :
1- فصل السلط (التنفيذية عن التشريعية)
2- المساواة المدنية : أي خضوع الجميع للقانون و خضوع الجميع للإلزامات الظهيرية .
3- الحرية : بمفهومها المتعدد و خاصة حرية العقيدة المرتبطة بحرية التعبير و التفكير و كذلك حرية المبادرة الاقتصادية . و حول هذه النقطة بالذات و علاقتها بالثورة الصناعية يقول ارنولد توينبي في كتابه (محاضرات حول الثورة الصناعية في انجلترا : الصادر سنة 1884) "يكمن جوهر الثورة الصناعية في حرية المبادرة و المنافسة التي عوضت الاحتكار الذي كان معمولا به منذ العصر الفيودالي"
و عقب هذه الثورة اسس الانجليز بنك انجلترا القومي الوطني سنة 1694م و قد خلق هذا البنك سندا ماليا كبيرا للتحولات الصناعية التي عرفتها انجلترا في القرن 18م.
و من نتائج الثورة المجيدة ايضا :
نشأة الوحدة السياسية بين انجلترا و اسكتلندا ، اذ ولدت اثر ذلك المملكة المتحدة لابريطانيا العظمى التي تحولت الى اكبر منطقة للتبادل التجاري الحر في اوربا سنة 1707م .
عبارة الثورة الصناعية : ابتكرها الاقتصادي الفرنسيBlanqui في كتابه الصادر سنة 1838م تحت عنوان " درس في الاقتصاد الصناعي" و تعني (الثورة الصناعية) ذلك المسار التاريخي الذي مكن اوربا خلال القرنين 18 و 19 من المرور من مجتمع تغلب عليه الزراعة الى مجتمع ينبني على اساس الصناعة . و هذا التحول اثر بشكل كبير على مجموع الاقتصاد في العالم المعاصر . و يدقق (يوضح) المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل عبارة الثورة الصناعية في كتابه :( الحضارة المادية و الاقتصاد و الراسمالية) 3 مجلدات . إذ يرى ان الثورة الصناعية بمفهومها الرئيسي تنطبق على بريطانيا خلال ق 18م . اما بالنسبة لباقي بلدان اوربا يتحدث فرناند بروديل عن مفهوم التصنيع الذي يشير الى صيرورة تاريخية .
ارتبطت التحولات الاساسية التي عرفتها اوربا في العصر الحديث من الناحية الزمنية بثلاث فترات متعاقبة توافق ثلاث بنيات متداخلة .
فترة زمنية اولى : 1620-1689م و توافق عصر الثورة العقلية . لقد عرفت اوربا خلال هذه الفترة بنية فكرية جديدة تمثلت في ظهور مجموعة من الافكار انجبها مفكرون مجددون و يتعلق الامر بالعالم الرياضي و الفيلسوف رينيه ديكارت الذي بلور مفهوما فكريا اساسيا هو الشك المنهجي و هي دعوة الى اعمال العقل بالتساؤل حول كل شيء عند التفكير في المعتقدات و العادات و التقاليد .
باروخ سبينوزا الذي دعى الى ضرورة الفصل بين الدين و الدولة و هي الفكرة التي مكنت الاوربيين في مرحلة لاحقة من المرور من الدولة الدينية الى الدولة المدنية كما اتضح من تجربة الثورة المجيدة سنة 1689م بانجلترا التي اقرت حرية العقيدة بضمانات قانونية .
و معلوم ان جون لوك كان قد بلور من الناحية السياسية و الفلسفية مفهوما اساسيا هو مفهوم الحرية . و قد قال جون لوك في نقاشه مع توماس هوبز على امكانية تمتع الافراد بالحرية على اساس الحماية القانونية . فكل اشكال الحرية من حرية العقيدة الى حرية المبادرة الاقتصادية مرورا بحرية التعبير و التفكير ممكنة في العمل الفكري و السياسي شريطة احتكام الجميع للقانون .
الفترة الزمنية الثانية :1730-1770م توافق عصر الثورة الحيوية :vital revolution و يتعلق الامر بعصر الالة او عصر الثورة الصناعية في مرحلتها الجوهرية . و يرى عدد من الباحثين في الاقتصاد و التاريخ الاقتصادي ان اوربا و تحديدا انجلترا كانت قد عرفت في هذه الفترة اقلاعا اقتصاديا حقيقيا (take off) مكن الراسمالية من الدخول في حلقتها الصناعية و منح الاوربيين الامكانيات الاساسية للهيمنة على العالم عن طريق الاستعمار.
الفترة الثالثة : 1770-1830م: هو عصر انتشار الحداثة و هي المرحلة التي انتشرت فيها انتشار واسعا قيم العقل و الحرية و التقنية حيث شملت جميع الفئات الاجتماعية في اوربا و جميع البلدان الاوربية .
من العوامل الممهدة للثورة الصناعية حصول تحولات هامة جدا في الميدانين الزراعي و الديموغرافي فقد حصلت في انجلترا ثورة زراعية حقيقية بالموازاة مع الثورة الصناعية و قد تمثل ذلك في مجالين اساسيين ، اولا المرور من نظام الحقول المفتوحة الى نظام الحقول المسيجة و في ذلك اشارة واضحة الى تشبع البوادي الانجليزية بمنطق الملكية الفردية و الراسمالية و قد تأطر ذلك بقانون صدر سنة 1760(enclosure act) قانون السياج ، ثم استعمال المواد الكيماوية في الزراعة مما ساعد على الرفع من الانتاج .

و قد ساعد انفتاح البورجوازية على البادية و انفتاح الارستقراطية الاقطاعية على المدينة (انفتاح متبادل) على ظهور تقنيات جديدة بميدان الزراعة مما مكن من الرفع من الانتاج و ربط الزراعة بالتجارة ، ثم إن نقص الحاجة الى الفلاحين مع هذه التقنيات الجديدة جعل هؤلاء يهاجرون الى المدن للعمل في المصانع .
حصلت ايضا بانجلترا خلال القرن 18 ثورة ديموغرافية (انفجار ديموغرافي) تمثلت في ارتفاع الولادات و تراجع الوفيات و ارتفاع امد الحياة و ذلك بفضل توفر المواد الغذائية مع تطور الزراعة و بفضل تحسن الخدمات الطبية و هكذا ارتفع عدد السكان الانجليز في ظرف 100 سنة بين 1750 و 1850م من 6 مليون نسمة الى 20 مليون نسمة.
الثورة الصناعية الاولى :
بالنسبة لعالم الاقتصاد روستوف في كتابه " مراحل النمو الاقتصادي" انطلقت الثورة الصناعية الاولى في انجلترا في اواسط القرن الثامن عشر ، و في فرنسا في بداية القرن التاسع عشر . في انجلترا كان البرلمان (مجلس العموم ) الذي اصبح يحكم البلاد عقب ثورة 1689م قد انشأ نظاما لتحفيز المخترعين عبر سلسلة من الاجراءات :
1- سنة 1714م حدد البرلمان مقدار التحفيز على الاختراع في 10000 جنيه استرليني .
2- توزيع براءات على المخترعين .
3- توزيع حوافز مالية على المخترعين الذين يطورون الاختراعات السابقة.
أما في فرنسا فقد ظهرت التشريعات الخاصة بالاختراع سنة 1791م و قد اشرف على هذه التشريعات البرلمان ( الجمعية الوطنية ) .
لقد انطلقت الثورة الصناعية في ميدان النسيج ، فإلى حدود سنة 1750م كانت صناعة النسيج تتم بشكل حرفي في الورشات التقليدية او في المنازل. و في سنة 1733م تمكن المخترع جون كايjon kay من صنع آلة تمكن من نسج الاقمشة بشكل اسرع اربع مرات بالمقارنة مع الطريقة اليدوية . و في سنة 1765م حصل الاختراع التقني الحقيقي لالة النسيج و كان ذلك على يد المخترع جيمس هاركريفزjames hargreavs الذي ابتكر آلة تنتج الف خيط دفعة واحدة . و تعرف هذه الالة باسمspinning jenny . لقد استطاع هاركريفز هذا ان يغير وجه منطقة لانكشاير بشمال انجلترا حيث تعددت المصانع التي اصبحت تشتغل بالالة و في سنة 1767م استطاع مخترع اخر و هو ريتشارد اوركرايت من تطوير هذه الالة و انشاء مصانع تشغل نحو 5000 عامل . لقد انتشرت هذه التقنية بشكل كبير في انجلترا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر حيث اصبحت تتوفر على 120 مصنع لانتاج النسيج بطريقة آلية . فتحولت المدن الانجليزية الى مدن صناعية و تحول الفلاحون الى عمال داخل هذه المصانع .
و من المجالات الاخرى التي شملتها الثورة الصناعية الة البخار التي اخترعها جيمس واطjames watt ما بين 1764 و 1775م . و قد استعملت هذه الالة في تشغيل السفن و القطارت الحديثة و آلات اخرى . و بصفة عامة يمكن القول ان جيمس واط هو مخترع الطاقة الحديثة و هو مهندس اسكتلندي عاش ما بين 1736 و 1819 م . في البداية كان يشتغل كتقني لاصلاح الالات بجامعة كلاسكو باسكتلندا و قد استطاع سنة 1769م التوصل الى استعمال تقنية الضغط بحكم درايته الواسعة بالرياضيات و الفيزياء .
لقد تمكن جيمس واط عقد شراكات مع الراسماليين الانجليز ، فتحول بدوره الى واحد من كبار الراسماليين الصناعيين في انجلترا . لقد تمكنت انجلترا بفضل هذه الاختراعات التقنية من ضمان مكانة اقتصادية غير مسبوقة في اوربا و العالم ، اذ اصبحت تهيمن من الناحية الاقتصادية على كل العالم من امريكا الى الصين مرورا بجنوب افريقيا . و في واقع الامر كان قد حصل تلاحم بين آلة النسيج و آلة البخار . فالالة الاولى رفعت من الانتاج و الثانية سرعت وثيرة التبادل التجاري لمادة النسيج . و هكذا اصبحت بريطانيا القوة العظمى الاولى في العالم و من جهة اخرى ظهرت التقنيات الصناعية الجديدة في فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر مباشرة بعد الثورة الفرنسية و خاصة مع نابليون الذي شجع احتضان هذه التقنيات و تنظيمها بطريقة قانونية على الشاكلة الانجليزية بوضع تشريعات لتحفيز المخترعين و تأسيس بنك قومي لتحويل الاختراعات الصناعية و انشاء مدارس عليا مختصة في الهندسة الميكانيكية ، و بذلك تحولت فرنسا الى قوة صناعية كبيرة خلال القرن التاسع عشر و دخلت في منافسة مع انجلترا من اجل السيطرة على الاسواق العالمية في سياق حركة استعمارية قسمت العالم الى مناطق نفوذ بريطانية و فرنسية .

الثورة الصناعية الثانية :
ارتبطت هذه المرحلة بانتشار التحولات التقنية الصناعية منذ اواسط القرن التاسع عشر في باقي اوربا ( المانيا ، ايطاليا ، بدرجة محدودة روسيا ) و في الولايات المتحدة الامريكية و في اليابان . فتحولت المجتمعات الغربية خلال القرن 19 الى مجتمعات صناعية و بدأ الانتاج الصناعي يتضاعف سنة عن سنة في هذا البلدان الى حدود بداية القرن 20 خاصة مع الحرب العالمية الاولى . و قد تمكنت المانيا خلال هذه المرحلة من لعب دور اساسي في هذا الانفجار الصناعي ، اذ حولت الصناعة الغربية الى صناعة حربية حيث تمكنت من انتاج الكثير من الاسلحة التي استعملت خلال الحرب العالمية .
من اهم الاختراعات التي ابتكرها الاوربيون خلال ق 19 هي :
1- القطار : اخترع الانجليز الة القطار سنة 1760م . ففي هذه السنة انشأ الانجليز سكة حديدية و عربات ذات عجلات حديدية تجرها الخيول . و في سنة 1804م ابتكر المهندسون الانجليز الة بخارية " القاطرة " تجر العربات الحديدية على سكة الحديد بسرعة تناهز 8 كيلومتر/ساعة لنقل الفحم الحجري و المعادن و تواصل هذا الابتكار في مجال سكة الحديد مع المخترع جورج ستيفنسن الذي يعتبره الباحثون المخترع الحقيقي للقاطرة البخارية . حصل هذا سنة 1815م و اصبح بامكان هذه القاطرة جر 20 عربة و بسرعة تتزايد سنة عن سنة . و في سنة 1830م قام روبرت ستيفنسن بتحقيق بنقلة هامة على مستوى القطار من وسيلة لنقل السلع الى وسيلة لنقل الركاب . و هكذا احدث اول خط حديدي لنقل المسافرين بين مدينتي ليفربول و مانشستر و هو خط مزدوج ذهابا و ايابا و قد انتظمت هذه الرحلات على هذا الخط بمواقيت محددة لاول مرة في التاريخ . و في فرنسا استطاع المهندسون انشاء اول خط حديدي سنة 1831م و هو خط رابط بين ليون و سان تيتيان .

إرسال تعليق

  1. شكرا على هذا العمل بارك الله فيكم

    ردحذف
  2. شكرا لكم شرح مفصل شافي وكافي

    ردحذف

 
الى الاعلى