0
اسم الكتاب: تاريخ المسلمين في البحر المتوسط: الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
• المؤلف: د. حسين مؤنس.
• الطبعة: الأولى.
• سنة النشر: 1993م.
• دار النشر: الدار المصرية اللبنانية.
• صفحات الكتاب: 156.

ظلَّ البحر الأبيض المتوسط بحرًا إسلاميًّا خالصًا طيلة ثلاثة قرون كاملة، تُظلُّه راية الإسلام على كامل موانيه وجُزُره وحاميات مدنه، وربما انحسَر المدُّ الإسلامي عن بعض أجزائه في بعض تلك المدة الطويلة، ولكن سرعان ما تَعود حركة الفتوحات والجهاد مرةً أُخرى على أيدي "المسلمين" العرب أو البربر أو أهل الأندلس؛ لتُعيد تلك الأجزاء ثانيةً تحت حكم الإسلام وسلطانه، حتى أتمَّ المسلمون فتح غربيِّ البحر المتوسط فضلاً عن شرقيِّه.

يضَع لنا الدكتور "حسين مؤنس" في مؤلَّفِه الهام "تاريخ المسلمين في البحر المتوسط" "دراسةً موجزةً للفترة الهامة أو الرئيسيَّة لتاريخ المسلمين - أو الإسلام - في البحر المتوسِّط"، وقد اقتصر المؤلف على ذكر تاريخ فتوحات المسلمين في البحر المتوسط منذ بداياته المبكِّرة في عهد الخلفاء الراشدين، حتى بدايات الحُروب الصليبية على الشرق، وجمع في تلك الفترة كلَّ ما استطاع جمعه مِن أخبار نَشاط المسلمين في ذلك البحر، مقدِّمًا دراسةً تحليليَّةً لنتائج تلك السيطرة الإسلامية على البحر المتوسِّط على العالَم الأوروبي في ذلك الوقت، من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

مؤلف الكتاب د. حسين مؤنس محمود، أديب ومُترجِم وباحث في التاريخ الإسلامي، ولد في 28 أغسطس 1911، حصل على ليسانس آداب قسم تاريخ من جامعة القاهرة (فؤاد الأول) عام: (1934)، ثم حاز على درجة الماجستير عام: (1937)، وعلى دبلوم الدراسات التاريخية من مدرسة الدراسات العليا بجامعة باريس عام: (1939)، وأتمَّ دكتوراه في الآداب مِن جامِعة زيورخ عام (1943)، عمل مدرسًا في معهد الأبحاث الخارجية بجامعة زيورخ (1943 - 1945)، ثم عضو هيئة التدريس بكلية الآداب جامعة القاهرة، وتدرَّج في سلك الوظائف الجامعية حتى عيِّن أستاذًا في التاريخ الإسلامي بالكلية عام: (1954)، ثم عيِّن مديرًا عامًّا للثقافة بوزارة التربية والتعليم، وشغَل منصب مدير معهد الدراسات الإسلامية في مدريد عام (1957)، وأيضًا شغَل مَنصِب رئيس قسم التاريخ بجامعة الكويت في الفترة من (1961/1977)، وشغَل منصب رئيس تحرير مجلة "الهلال"، وعمل أستاذًا زائرًا في كل مِن جامعات بيل (بالولايات المتَّحدة الأمريكية)، والرباط (بالمَغرب)، ولندن، وكمبريدج، ودرهام، وسانت أندور، وأدنبرة، وهامبورج، وبون توبنجي... إلى جانب كونه كان عضوًا بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، وعضوًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، وعضو المجالس القومية المتخصِّصة، والمجلس الأعلى للثقافة، وأنشأ مشروع "الألف كتاب"، وقد حصَل د. "حسين مؤنس" على نيشان الجمهورية مِن الطبقة الثالثة، ونيشان "ألفونسو العالم" مِن إسبانيا، وأوسمة أخرى عديدة، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية من مصر عام (1986).

وله العديد من الكتب - المؤلَّفة والمُترجمة - العِلمية منها:
المشرق الإسلامي في العصر الحديث (القاهرة - 1938)، رحلة الأندلس (القاهرة - 1964)، ابن بطوطة ورحلاته (القاهرة - 1980)، معالم تاريخ المغرب والأندلس (1980)، عالَم المساجد (الكويت - 1981)، أطلس تاريخ الإسلام.

ومن مؤلَّفاته الأدبية: قصة الأندلس، كتب وكتاب (1969)، إدارة عموم الوزير (1974)، أبو عوف (1975).

وصْف الكتاب:
وضَع الكاتب كتابه في مقدِّمة وأربعة فصول؛ لخَّص فيها تاريخ سيطرة المسلمين على البحر المتوسط حتى الحروب الصليبيَّة، وآثار سيادة المسلمين على البحر المتوسط طيلة تلك الفترة، وقد نبَّه الكاتب في مقدِّمته على أن هذا الكتاب هو بمثابة دراسة مُختصَرة أراد فيها تجميع كل ما يُمكِن جمعه بشكْل سَريع عن تاريخ صِراع المسلمين مع الأوروبيين على سيادة البحر المتوسط، ومَن أراد التوسُّع فعليه الرجوع إلى موسوعته الأشمل "أطلس الإسلام" الذي خصَّص أحد فصوله لدراسة شامِلة عن المسلمين في البحر المتوسط، وزوَّده بالخرائط الشارِحة لأماكن المعارك والمدن والحاميات.

وجاءت عناوين فصول الكتاب على النحو التالي:
الفصل الأول: البحر الأبيض قبل ظهور الإسلام.
الفصل الثاني: الإسلام في حوض البحر الأبيض.
الفصل الثالث: آثار سيادة المسلمين البحرية على أوروبا.
الفصل الرابع: الوضْع السياسي العام في البحر الأبيض أثناء سيادة المسلمين عليه.

تناول الفصل الأول - بعنوان:
"البحر الأبيض قبل ظهور الإسلام" - بيانًا لحال البحر الأبيض المتوسط قبل دخول الإسلام؛ حيث كانت تَتنازعه قوَّتان تُسَيطِران على أغلب موانيه: البيزنطيُّون في الشرق، والقبائل الجرمانية في الغرب، وكانت الوحدة السياسية التي تجمع أطراف وموانئ هذا البحر هي رابطة "النصرانيَّة"، ومِن الناحية الاقتصادية فقد كان البحر الأبيض بمثابة طريق تجاري هامٍّ لنقْل البضائع والهدايا والتُّحَف بين الشرق والغرب، ومن الناحية الثقافية كانت الثقافة اللاتينية أو بقاياها هي السائدة على روح البحر الأبيض المتوسِّط.

أما الفصل الثاني:
"الإسلام في حوض البحر الأبيض"، فقد تناوَل تاريخ دخول المسلمين البحر الأبيض المتوسِّط؛ حيث كان اهتِمام الدولة الإسلامية منذ عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتوسيع الفتوحات خارج شبه الجزيرة العربية، واتِّجاه نَظرِ المسلمين إلى الشمال لحِماية الدولة الإسلامية الوليدة، وكان أول لقاء توسُّعي - مِن الناحية النظرية - هو غزوة "مؤتة" ضدَّ البيزنطيِّين شرق البحر الأبيض المتوسِّط، أما في عهد الخلفاء الراشدين، فقد انطلَقتْ جيوش المسلمين تغزو بلاد الشام ومصر والعراق بدايةً مِن سنة 13 هجرية في وقت قصير للغاية، لتدخُل الدولة الإسلامية نطاق البحر الأبيض المتوسط، وتضع قدمًا ثابتةً في سوريا ومصر، وتُسيطِر على أكبر موانيهما وثغورهما المطلَّة على البحر الأبيض المتوسِّط.

وجاء الفصل الثالث بعنوان:
"آثار سيادة المسلمين البحرية على أوروبا"؛ حيث كان من أهم نتائج الفتوحات الإسلامية بالبحر المتوسط تحوُّل الدولة الإسلامية إلى دولة "بحرية متوسِّطيَّة" خلال العصر الأموي، وإقفال موانئ غرب أوروبا؛ حيث صارت حدود الدولة الإسلامية تنتهي عند هذه المنطقة، ومِن ثَمَّ مثَّلتْ حدًّا فاصلاً بين الدولة الإسلامية وبين قبائل الشعوب الأوروبية (الغال - الجرمان)؛ ومِن ثَمَّ عُزلة أوروبا حضاريًّا، بل وتحوُّل أوروبا من مجتمع بحري تجاري إلى مُجتمَع زراعيٍّ في بعض فتراته.

وتناوَل الفصل الرابع - بعنوان:
"الوضع السياسي العام في البحر الأبيض أثناء سيادة المسلمين عليه" - دحْضَ النظرية التي تداوَلها مؤرخو الغرب بشأن التقارُب بين الدولة العباسية في المغرب والدولة الكارولنجيَّة (الفرنجة)؛ في سبيل القضاء على الدولة الأموية الوليدة في الأندلس؛ ومِن ثَمَّ لم تجد الأخيرة مناصًا مِن التحالف مع الدولة البيزنطية في الشرق، وقد أثبَت المؤلِّف أن هذا "وهم تاريخي"؛ لتخفيف عُمقِ الأزمة التي عانى منها الأوروبيون طيلة سيطرة أجناس المسلمين المختلفة (عرب - بربر- مغاربة - أندلسيِّين) على سائر شؤون البحر الأبيض طيلة تلك القرون الثلاثة، وأنه رغم العداء بين العباسيِّين والأمويين في الأندلس، فإن الخُلفاء العباسيِّين كانوا يُدركون أهمية وقوف ممالك الأندلس حائطَ صدٍّ ضدَّ الأطماع النصرانيَّة في دولة الخلافة الإسلامية بالشرق.

وفي الخاتمة بيَّن المؤلِّف أن المسلمين بصفة عامة بلغوا شأوًا عظيمًا في ركوب البحر رغم قِلَّة خبرتهم في هذا المجال، واستطاعوا السيطرة على شؤونه وكافَّة موانيه، ولكنهم لم يَستطيعوا استغلال وجودِهم فيه، والاهتِمام بتنمية الصناعات البحرية من إنشاء أساطيل ودور صناعة سفن، وقد كان هذا الضَّعف البحري هو نُقطة ضَعف دولة الخلافة الإسلامية؛ حيث كان ضعف البحريات الإسلامية مِن آكَدِ الأسباب لضَياع الأندلس وجزائر البحر وانهيار دول المَغرِب الإسلامي بعد ذلك، كما نجد أن الحملات الصليبية أتتْ مِن قِبَل البحر، وبذلك نجد أن "العالم الإسلامي أُتي من جانب البحر قبل أن يُؤتى مِن قِبَل البر"؛ ومع ذلك فتاريخ المسلمين في البحر المتوسِّط تاريخٌ مُثير للإعجاب بشكل كبير، ويبيِّن عظمة الفاتحين الإسلاميين الذين كانت تُحرِّكهم عقيدتُهم في المقام الأول لبسط راية الإسلام حتى في تلك المناطق التي لم يكن لهم سابق خبرة بارتيادها، بل والحرب والجِهاد فيها مُوقِنين بالنصر رغم العواقب والتبعات!

أهم الأفكار الرئيسة بالكتاب:
المسلمون يُسَيطِرون على شواطئ البحر الأبيض شرقًا وغربًا:
اندفَع المُسلِمون يَغزون سواحل البحر الأبيض المتوسِّط غداة قيام الدولة الإسلامية، وفي الوقت الذي كان المسلمون مَشغولين فيه بقِتال الفرس، كان عمرو بن العاص - رضي الله عنه - يستأذن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لغزو مصر بجيشه، وكانت جيوش المسلمين تفتح موانئ الشام شرق البحر الأبيض المتوسط، وبعدها انطلَق عُقبة بن نافع وأصحابه بحذاء ساحِل البحر الأبيض نحو بَرقة وإفريقيَّة (تونس) ويَفتَحونهما، ثم يَمضي المسلمون نحو بلاد المَغرب الأوسط والأقصى ويُثابِرون طيلَة سَبعين عامًا حتى يَصِلُوا سَبتةَ عام 91هـ - 709م، بل وتَستهويهِم المُغامَرة أكثر فيَعبُرون إلى الأندلس (إسبانيا والبرتغال)، ويَبسُطون سيطرتهم على شبه الجزيرة الأيبيريَّة، وفي أقلَّ مِن عامين نجدهم عند جبال البرتات (جبال البرانس)، ثم يُواصِلون فتوحاتهم حتى شواطئ بُروفانس حتى مصبِّ نهر الرون، ويُهدِّدون جزر إيطاليا الجنوبية، ويَستولون على "أربونة" في عمق أوروبا، ولم يتوقَّف الزحف الإسلامي على أوروبا إلا بعد هزيمة (بلاط الشهداء) التي مُني بها المجاهد المسلم عبدالرحمن الغافقي ورفاقه على مَقرُبة مِن باريس فيما بين "تور" و"بواتييه" عام 114هـ - 732م، ومع ذلك نجد ذِكرًا في بعض المراجع الأوروبية لمجموعة مِن المُجاهِدين المسلمين استطاعوا الوصول إلى "جنوب سويسرا" وسط قبائل الغال النصرانية، مُقيمين لفترة قصيرة مِن الزمن مركزًا إسلاميًّا شاهِدًا بطموح المسلمين في فتح القارة الأوروبية، ومدِّ نُفوذ الإسلام على الأرض كلِّها وقتَها!

ويَرى الدكتور "حسين مؤنس" أن هذا التوغُّل السريع في البحر الأبيض كان الغرض منه وقتذاك هو الاستيلاء على "القُسطنطينيَّة" مركز الدولة الرومانية قديمًا، وأيضًا "روما" مَعقل النصرانية في أوروبا؛ مِصداقًا لوعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبشارته بفتحهما، وأن هذا كان في ذهن الفاتح "موسى بن نُصَير" وهو يواصِل فتوحاته - بعد فتحه الأندلس - داخل عمق أوروبا، وهو ما نهاه عنه وقتها الخليفة الأموي "الوليد بن عبدالملك"؛ ناهيًا إياه عن "التَّغرير بالمسلمين".

ونجد أن أول معركة بحرية - بالمعنى المفهوم لمعارك البحار - هي غزوة "ذات الصَّواري" عام 34هـ - 655م، وذلك لمواجهة أسطول الإمبراطور البيزنطي "قنسطانز"، الذي أعدَّه للقضاء على ما كان للمسلمين وقتها مِن قوة وليدة للحرب في البحر، وبغرض تَحطيم قوى المسلمين البحرية في مَهدِها، وهُزمَ الأسطول البيزنطي شرَّ هزيمة في تلك الغزوة، ولو وُفِّق الإمبراطور البيزنطي في هذه المهمة لظلَّت سيادة البحر الأبيض المتوسط أو شرقيِّه على الأقل بيد البيزنطيين دون المسلمين.

دور الأمويين في الفتوحات الإسلامية البحرية:
يعود الفضل الأكبر في الوجهة "البحرية" لفتوحات المسلمين إلى "الأمويِّين"، ولعلَّ عمل "بنو عبدشمس" قبل ظهور الإسلام في التجارة وقيادة القوافِل الخارجية نحو بلاد الشام وموانيها، كان له أكبر الأثر في اختِلاطهم بأهل تلك البلاد، وقد أدرك الخلفاء الراشدون هذه الحقيقةَ منذ البداية، وعَلِموا أنهم أقدر مِن غيرهم على قيادة الحروب في الشام؛ لعِلمهم بأراضي الروم هناك، وجغرافيا المنطقة، إلى جانب تعامُلهم التجاري معهم، وركوبهم البحر في بعض تلك القوافل التجارية؛ لذا قلَّدوهم قيادة البعوث الحربية إلى تلك المناطِق، وأمَّروهم على الولايات هناك، وكان أول والٍ مُسلم على الشام "يَزيد بن أبي سفيان"، وخلفه من بعده أخوه الأصغَر "مُعاوية"، وعندما تقلَّد معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - الحُكمَ عَمِل على نقل مركز الخلافة في الدولة الإسلامية إلى الشام؛ وكان لهذا أثره في أن تَصير الدولة الإسلامية دولةً شامية بحرية في المقام الأول.

ونجد أن معاوية منذ تقلَّد الشام وجَّه اهتمامه الأكبر للفتوحات البحرية، فهو الذي فتَح "قيسارية" عام 19 هجرية، وفتح "عسقلان" مِن موانئ الروم وحامياته، ثم سار لفتح "قبرص"، ولم يكن المسلمون قبلها قد رَكِبوا البحر، وأرسل "مُعاوية بن خديج" لفتح "صقلية"، و"جنادة بن أبي أمية الأزدي" لفتْح "رودس"، وقد سار بقية خلفاء بني أمية على نفس سيرة مُعاوية مِن الاهتمام بالثُّغور البحرية؛ فنجد "هشام بن عبدالملك" يُنشِئ دار صناعة سفن في "صور"، ثم نجد بني مروان يُحوِّلون هذا البلد إلى ميناء بحري، بحيث تمَّ في عهد الأمويِّين أغلب فتوح شواطئ البحر الأبيض المتوسط وجزائره، "ونستطيع القول: إن الدولة الإسلامية كانت على أيامهم دولةً بحريةً مُتوسِّطية مِن حيث الامتداد الجغرافي والاتجاه العام".



ولكن هذا الامتداد البحريَّ سرعان ما انحسر في عهد العباسيِّين؛ حيث كان طابع الدولة العباسيَّة طابعًا آسيويًّا في الامتِداد الجغرافي، واهتمُّوا باتساع فتوحاتهم نحو نواحي آسيا الوسطى، واتجه نشاطهم التجاري نحو الخليج الفارسي وبحار الهند؛ مما أدى لانحِسار الفتوحات في تلك المنطقة، وانفصَلت عن الخلافة العباسيَّة منطقة المَغرِب الأقصى والأندلس سياسيًّا مع بقاء النفوذ الاسمي فقط، وتنازَل العباسيُّون عن كلٍّ مِن المَغرِب الأوسط وإفريقيَّة إلى الأغالبة؛ لقاءَ قدْر مُعيَّن من المال، وهنا انتقلت قيادة الفتوحات الإسلامية لكلٍّ مِن البربر والمَغارِبة وأهل الأندلس؛ حيث نجد أن بني الأغلب هم الذين فتحوا "صقلية"، وفتح أهل الأندلس جزيرة "كريت"، ولكن كان نتيجة تقاعُس الخلافة الإسلامية الشرقية عن الاهتمام بشؤون البحر الأبيض المتوسِّط استقواء البيزنطيِّين مرةً ثانيةً، وبداية التصفية الحقيقيَّة للجناح الغربي من الدولة الإسلامية في بلاد الأندلس والمغرب.

آثار سيادة المسلمين البحرية على أوروبا:
كان لاستيلاء المسلمين على شواطئ الجزء الشرقي مِن البحر الأبيض تراجُع الدولة البيزنطية إلى مياه بحر إيجه، وأَنِ اقتُطعَ منها أغلب موانيها وسواحِلِها ومرافئها الآسيوية والإفريقية، وكذلك توقُّف نشاطها التجاري تمامًا، وامتنع ورود المحاصيل والمتاجر الشرقية إلى الموانئ البيزنطية ابتداءً مِن القرن الثامن الميلادي، بل وأدخل نظام البنود "Themata" العسكرية؛ حيث تحوَّلت الولايات القريبة من البحر إلى "بنود حربية" يَحكُمها أمير بحر تحت إمرته أسطول بحري لحماية بحر إيجه ومداخل الدردنيل مِن هجمات المسلمين، وكان أمير البحر يتبع أوامره مِن الإمبراطور مُباشرةً، وكان مركزه السياسي أعلى قدرًا مِن حكام الولايات البيزنطيَّة أنفسهم، ومِن أشهر تلك البنود البحرية: ولاية أبيدوس، والكبيريين، وجزيرة ساموس... وقد أورد "أبوالحسن المسعودي" في كتابه "التنبيه والإشراف" أسماء أربعة عشر بندًا بحريًّا وبريًّا أنشأها البيزنطيون؛ خوفًا من وصول المسلمين إلى مركزهم في "القُسطنطينيَّة"، ولصدِّ غارات المسلمين المُتواصِلة.

أما غربي البحر الأبيض المتوسط، فيُورد لنا المؤرِّخ البلجيكيُّ "هنري بيرين" نظريته المشهورة التي وضعها في كتابه الهام "محمد وشارلمان"، والتي ملخَّصُها أن دخول المسلمين حوض البحر الأبيض أفْقد هذا البحر طابَعه اللاتيني، وأصبحت مياهه حدًّا فاصلاً بين الشرق والغرب؛ حيث عجَزت قبائل أوروبا عن صدِّ الاجتياح الإسلاميِّ الطَّموح نحو سواحلها الجنوبية، وارتدُّوا للداخل، تارِكين مراكزهم البحرية الشهيرة للمسلمين على شواطئ المغرب والأندلس وجزائر صقلية وسردنية وقرسقة وجزر البليار، بل امتنَع ركوب البحر بصورة واضحة على أهل غالة (فرنسا) وشرقي إيطاليا، واستحال عليهم أن يَخرجوا فيه بسَفين - كما يقول ذلك "ابن خلدون".



وكانت نتيجة ذلك تلك الظاهرة التي يَصفها "بيرين" بأنها "انقِفال البحر الأبيض الغربي"، بل رُويدًا رويدًا لمَّا تعسَّر على أهل أوروبا العمل بالتجارة البحرية؛ خوفًا من نفوذ المسلمين وغاراتهم وسيطرتهم على البحر الأبيض سيطرةً شبْه تامَّة؛ اضطُرَّ المجتمع في غربي أوروبا إلى التحول إلى الزراعة، وأصبح الناس هناك يَعتمِدون على نتاج الأرض، وأصبح العقار الثابت من أرض أو بيت هو أساس الثروة، وأصبَح أساس نظامهم الاقتصادي ما يُعرَف بنظام "الاقتصاد الضَّيعي المقفل"؛ حيث كان قوام المجتمع يَعتمِد على نظام الضِّياع المستقلَّة "الدومين"، بل واضطُرَّت الكنيسة لملك مساحات شاسِعة مِن الأراضي والضِّياع التي يُديرها الأساقفة والقُسُوس، والذين تولَّوا الاستفادة من تلك الأراضي في تشغيل أهلِ قرية الكنيسة في الأعمال الزراعية والإدارية لتلك المساحات الشاسعة مِن الضِّياع.

أما على الجانب الثقافي، فقد اضمحلَّت الثقافة اللاتينية تمامًا في حوض البحر المتوسط، وانمحت آثار اللغة اللاتينيَّة والثقافة الرومانية من المَغرِب كلِّه، وحلَّت محلَّها اللغةُ العربية وحضارة الإسلام، وكذلك في شبه الجزيرة الإيبيرية؛ حيث انقطعت الصِّلات بين غالة وإيطاليا مِن جهة وإسبانيا من جهة أخرى، وفي الوقت الذي سادَت فيه الأمية والجهل فرنسا وإيطاليا، تعلَّم الناس في الأندلس قراءة وكتابة العربية، وما بَعُدَ من أراضٍ عنها كان أهلها قد نَسُوا اللاتينيَّة تمامًا، وتحدَّثوا بلهجة بدائية هي اللهجة "القشتالية"، وهي أصل الإسبانية.

أوديسية فراكسينتوم.. تجربة فريدة في عمق أوروبا:
يورد د. حسين مؤنس ذكْرًا لتلك المستعمرة الإسلامية "أوديسية فراكسينتوم" داخل أوروبا، كدَلالة على عُمقِ النفوذ الإسلامي حينها في العالم، وسيطرته التامَّة على مقاليد السيادة البحرية والبرية حتى حدود أوروبا، بل وداخله أيضًا؛ حيث ذكرتْ "حوليات سان برتان" أن نفرًا من القراصنة المغاربة - هذه هي التسمية التي أطلَقها الأوربيون على رجال فتوحات المسلمين وشانِّي الغارات في أوروبا وقتَذاك - قد دخلوا مصبَّ نهر الرون، وصعدوا فيه بضع مرات خِلال النصف الثاني مِن القرن التاسع.

حيث نجد أنه فيما بين سنتي 891 و 894 تمكَّنت جماعة من أهل الأندلس والمغرب من النزول في خليج "سان تروبيز- Saint Tropez" على شاطئ بروفانس، وتحصَّنوا في جبل "فراكسينتوم"، وهو المَوضِع المعروف اليوم باسم "جارد فرينيه - Garde Frienet"، ثم مضوا يَفتَحون القُرى ويُغيرون عليها في نواحي "كونتية - Frejus"، ثم أَوغَلوا في منطقة "مرسيليا" وخربوا كنيسة "سان فيكتور- Saint Victor" الشهيرة، ثم صَعدوا مع نهر "الرون" ونشَروا الرُّعب في مُقاطَعتَي "فالنتان- Valentin" و"فين- Vienne"، وفي القرن العاشر الميلادي امتدَّ نشاطهم حتى سُفوح جبال الألب، وملكوا نواصي الجبال والممرَّات على طول طريق الحُجَّاج إلى روما، وكَثُرت غاراتهم في ناحيتي "أمبرن- Embrundan" وجزير "يفودان- Graisivan"، بل توغَّلوا في الوديان الإيطالية دونما رادِع؛ حيث توغَّلوا في "بيد مونت" حتى "أكي-Acqui" و"أستي- Asti"، وقد حاولتْ حَملةٌ يؤيِّدها أسطول بيزنطي القضاء على خطرهم دون جدوى عام 931م.

وفي سنة 933م كان نُفوذهم قد صار خطيرًا ومُتعاظِمًا، وكوَّنوا ميليشياتٍ قتاليَّة تُغير على ما حولهم مِن مدن أوروبية ثم يَعودون للاعتصام في مركزهم في "فراكسينتوم"، وفي سنة 939م توغَّلتْ جماعات المسلمين من فراكسينتوم في جبال الألب حتى وصلوا إلى "سان جالن- St. Gallen" (في سويسرا الحالية)، ونهبوا كنيستها، ولما زاد خطرهم توجَّهت نحوهم حَملة عظيمة بقيادة "هوجو" ملك إيطاليا و"رومانوس" إمبراطور بيزنطة، ولكن لم تستطع طَردهم مِن فراكسينتوم، ولم يتمَّ إخراجهم من هذا الإقليم الجبَلي سوى عام 972م عندما سار إليهم "أوتو" إمبراطور ألمانيا، وهزمهم وأخرجهم مِن مُعتصَمِهم عند خليج "سانت تروبيز"؛ لتَنتهي آخِر فصول أقوى مُحاوَلة جريئة للتوسُّع داخل عمق أوروبا بواسطة مجموعة قتالية صغيرة من المسلمين المَغارِبة وأهل الأندلس!


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/71171/#ixzz3suxE9asw

إرسال تعليق

 
الى الاعلى